كثيرًا ما نسعد أو نتألم من أجل معاملات البشر لنا. وكثيرًا ما يَحار الفكر ويتوقف أمام تصرفات الآخرين ومواقفهم نحونا. وكثيرًا ما تحركنا أفكار ومشاعر مغلوط فيها؛ فيتعب من حولنا، ونتعب نحن أيضـًا، ونفقد جميعنا السعادة.
أرسل إليَّ أحد الأصدقاء بهٰذه القصة التي تقول إن فتًى سأل والده قائلـًا: قُل لي، يا أبي، كيف تنشأ الحروب؟ أجاب الأب: لا توجد بدايات محددة، ولٰكنني، على سبيل المثال، سأقدم إليك، يا ابني، ما حدث في الحرب العالمية الأولى؛ فقد بدأت الحرب عندما هاجمت ألمانيا بلچيكا و … وهنا قاطعته الأم قائلة بحدة: قُل الحق، لقد بدأت الحرب عندما قُتل بعض الأشخاص! إلا أن الأب لم يتحمل تدخل الأم بهٰذا الأسلوب، وبدأ في تعنيفها، وهو يقول: إنه لم يوجِّه سؤاله إليك، بل سألني أنا! فلماذا تتدخلين بالإجابة، وتقاطعين حواري معه؟! ثارت الأم بشدة، وأسرعت تغادر الحجرة. وبينما هي تخرج، أغلقت الباب بعنف شديد ما سبب اهتزاز رف مثبت على الحائط إلى جوار باب الغرفة، وسقوط بعض القطع الفنية الثمينة وتكسرها. وساد الصمت الغرفة، الذي قطعته كلمات الابن: أبي، الآن عرَفتُ كيف تبدأ الحروب؟! فلم أعُد في حاجة إلى الإجابة.
ولكي تتوقف الحروب بين الأشخاص، توجد بعض الحقائق التي حين يُدرِكها الإنسان تُجنِّبه كثير من المشكلات والأخطاء في معاملاته مع الآخرين:
جميعنا مختلفون
من حكمة الله، تبارك اسمه، أنْ خلق كل إنسان متفردًا له شخصية لا تطابق غيرها؛ فتتقارب بعض الشخصيات، وتتباعد أخرى، لكي تؤدي إلى تكامل رائع عندما يفهم الجميع أنهم معـًا يكوّنون لَوحة باهرة الجمال صنعتها يد الله. ومن هنا ينبغي أن يُدرِك كل إنسان أن هناك مساحة من الاختلاف بينه وبين الآخر، اتسعت أو صغرت، وأن هٰذه المسافة لا تميز شخصـًا عن آخر، ولا تعطي الأفضلية لأحدهم عن الباقين، بل هي تنوع يُثري ويغني عندما نعمل معـًا. وهٰذا الاختلاف هو أدعى لأن يتعامل الإنسان بأسلوب إيجابيّ بالأكثر؛ يقولون: “ليس من العجيب أن يختلف الناس في ميولهم وأذواقهم، ولٰكن العجب أن يتخاصموا من أجل هٰذا الاختلاف!”. لذٰلك كُن واسع الأفق، مدركـًا قيمة الاختلاف، ولا تحوّله إلى خلاف.
التميز
كل إنسان له الجوانب التي تميز فيها، والجوانب العادية وتلك الضعيفة. لذٰلك، قيِّم نفسك وقيِّم الآخرين بهٰذا الأسلوب؛ فلا يوجد إنسان رائع متميز في جميع جوانب شخصيته. وفي المقابل، لا يوجد أحد ضعيف في كل جوانب شخصيته. والشخص الناجح اجتماعيـًّا هو من يستطيع إدراك جوانب القوة الحقيقية في حياة من يلتقيه، حتى يستطيع معاملته بأسلوب صحيح؛ فلا يقلل منه فيشعر بالظلم والإجحاف، أو يرتفع به فوق استطاعته فيحطمه بالفشل واليأس.
جمود الرؤية
يقولون: “عندما تغير نظرتك في الأشياء من حولك، تجد كل شيء حولك قد تغير.”. كثيرًا ما تفشل في معاملاتك مع الآخرين لأنك تراهم في صورة ذهنية ثابتة لا تريد أن تغيرها أو تطورها. فلا تكُن جامد الرؤية، تتوقف عند فكر مسْبق تجاه إنسان، فتُعامله دون محاولة فَهمه أو استيعابه؛ فربما إذا اقتربت إليه، تجده يحمل كثيرًا من السمات المشتركة بينكما. أمّا من يختلف عنك، فقدِّم إليه المحبة العميقة؛ فستجد الاختلاف يتحول إلى مصدر قوة لا ضعف.
وفي عَلاقات الإنسان ومعاملاته، يحتاج إلى عدة مبادئ تساعده في إنجاحها:
• “وكما تُريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا أنتم أيضـًا بهم هٰكذا.”. كلمات قدَّمها السيد المسيح قبل ألفي عام إلى البشرية، وما زالت تُعد طريقـًا ذهبيـًّا في المعاملات بين البشر. فما نقدمه إلى الآخرين هو ما سيُرد إلينا يومـًا ما، منهم أو من غيرهم. فإن قدمت الخير، لن تحصد إلا الخير، وإن صادفتك متاعب كثيرة. وإن قدمت الشر، فلن تجد إلا الشر يتربص بحياتك. فمن هو ذٰلك الإنسان الذي يستطيع أن يهرَُب من عدل الله؟! وما يزرعه الإنسان في الحياة فإياه يحصُِد؛ بل بالكَيل الذي يَكيل به الناس يُكال لهم ويزاد. وقد اعتبر علماء النفس ودارسو التنمية البشرية أن هٰذه القاعدة الذهبية هي أساس لنجاح الإنسان في الحياة؛ فيقول د. “إبراهيم الفقي”: “مِن اليوم، قُم بمعاملة الآخرين بالطريقة التي تحب أن يعاملوك بها. مِن اليوم، ابتسم للآخرين كما تحب أن يبتسموا لك. مِن اليوم، امدح الآخرين كما تحب أن يقوموا هم بمدحك. مِن اليوم، انصت للآخرين كما تحب أن يَنصِتوا لك. مِن اليوم، ساعد الآخرين كما تحب أن يساعدوك. بهٰذه الطريقة ستصل إاى أعلى مستوًى من النجاح، وستكون في طريقك إلى السعادة بلا حدود.”.
• أيضـًا اهتم بالآخرين، لا تنتظر منهم أن يقدموا الاهتمام بك؛ فتُقضِّي حياتك انتظارًا! بل كُن مبادرًا؛ فقلة الاهتمام تقتُل المشاعر الجيدة التي يمكن أن نجدها في البشر. وقدِّم المحبة والاهتمام إلى الجميع؛ فتمنحهم السعادة التي تنعكس على حياتك. ولا تفكر كثيرًا في استحقاق هٰذا الإنسان لرعايتك ومحبتك؛ فمن منا، يا عزيزي، يستحق أن يكون موضع محبة الله واهتمامه، الذي يحب الجميع بسخاء. وهنا أتذكر كلمات الكاتب الكبير “نجيب محفوظ”: “أقصى درجات السعادة أن نجد من يحبنا فعلـًا؛ يحبنا على ما نحن عليه، أو بمعنى أدق يحبنا بالرغم مما نحن عليه.”.
• أيضـًا درِّب نفسك على أن تكون جميل الطبع والخُلق مع الآخرين؛ يقولون: “كُن جميل المظهر تهواك العيون، وكُن جميل الخلق تهواك القلوب.”. فهناك بعضٌ يهتم، فقط، بجمال المظهر وأناقته التي لا تتخطى حدود العينين وتُنسى بمرور الزمن. أمّا الجمال الداخليّ في الإنسان، فلا يُنسى عبر الأجيال، ولا يُنسى أمام الله. أتذكر كلمات “توماس أديسون” المخترع الذي أضاء العالم: “أمي هي التي صنعتني، لأنها كانت تحترمني وتثق بي. أشعرتني أنني أهم شخص في الوجود؛ فأصبح وجودي ضروريـًّا من أجلها، وعاهدتُ نفسي ألا أخذلها كما لم تخذلني قط.”. لَم تقدِّم أم “أديسون” اختراعـًا يذكره العالم لها، لٰكنها قدَّمت إلينا ابنها الذي أفاد البشرية بأسرها؛ وقد صنعته بما حملته في داخلها من جمال لا يَفنى.
إن العَلاقات بين البشر متشابكة، وقد يصل بها الإنسان إلى درجة التعقيد؛ إلا أنها بسيطة تحمل في طِياتها عمقـًا. “أحبب قريبك كنفسك”، ولتكُن الإنسانية جميعـًا هي ذٰلك القريب.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ