تهنئة من عمق القلب لمناسبة عيد الميلاد المجيد، طالباً إلى الله أن يمنحنا عاماً مملوءاً سلاماً وخيراً.
إن الذى يتأمل في قصة الميلاد التي حدثت قبل قُرابة الألفى عام، يجد نفسه أمام قصة تواضع عجيبة، فحين نعود إلى آدم وحواء، نجد أنهما سقطا بسبب ما قدمته الحية إليهما من إغراء باطل، فقالت الحية للمرأة: «لن تموتا! بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله».. وخطية الكرباء هي الخطية التي أسقطت الشيطان من رتبته الملائكية حين فكر في قلبه أن يصير مثل الله، إذ قال في قلبه: «أصعد إلى السماوات. أرفع كرسيى فوق كواكب الله، وأجلس على جبل الاجتماع فى أقاصى الشمال. أصعد فوق مرتفعات السحاب. أصير مثل العَلىّ». ومن هنا جاء السيد المسيح في تواضع عجيب إذ أتى مولوداً من عذراء فقيرة، ليعتني بهما شيخ عجوز نجار فقط. وفي تواضعه لم يكن له مكان يولد فيه فوُلد من مذود للحيوانات، ويحتفل به رعاة بسطاء متواضعون، إلا أنهم كانوا يستحقون رؤيته. وفي مجيئه، يقدم صورة مختلفة إلي العالم الذى يقيس عظمة الإنسان بمقدار ما يملك من مال أو سلطان أو وضع اجتماعى؛ ليكون الاستحقاق الحقيقى والعظمة في نظر الله كامنين لقلب الإنسان وشخصه لا بما يملك. لذا، كل متكبر قلب لم ير الميلاد، ومن هؤلاء كان «هيرودس» الملك.
و«هيرودس» من أصل أدومى -من سلالة بنى «عيسو»، وعُين من قيصر روما والياً على «الجليل»، ثم صار ملكاً علي اليهودية. وقد كان «هيرودس» أول ملك أجنبى يحكم اليهود من أيام موسى النبى بعد أن صاروا تحت حكم الرومان، وقد وافق مجلس شيوخ الإمبراطورية الرومانية على منحه المُلك.
كان مقر حكمه فى مدينة أورشليم، وقد اشتهر بالبناء فى أنحاء المملكة، وتميزت مدة حكمه بالازدهار الثقافى والاقتصادى. إلا أنه كان شديد البطش في حياته، يخشى فقدان ملكه، دائم الريبة فيمن حوله حتي أقرب أفراد عائلته! وقد أمر بقتل كثيرين لشكه فى تآمرهم ضده؛ فقتل «هيركانوس» جد أحب زوجاته، ثم قتلها هى، ثم قتل ثلاثة من أبنائه، وكثيرين من أصدقائه وأقاربه ومعاونيه!!
وذات يوم، جاء مجوس من المشرق متتبعين نجماً، يسألون عن ملك اليهود المولود ليقدموا إليه هداياهم. واضطرب «هيرودس»، متوهماً أن مملكته الأرضية ستغتصب منه، فأوصى المجوس بدهاء أن يُخبروه متى وجدوا الصبى، وفي الوقت نفسه بدأ سعيه الشرير ليعرف مكان الطفل، فأخبره رؤساء الكهنة والكتبة عن مكان الصبى الذي ذكره الأنبياء أنه «بيت لحم» اليهودية. فبيَّت النية لقتل المولود، إلا أن السماء لم تصمُت، كما لم تصمُت مع يوسف في حيرته، فأوحى للمجوس في حُلم ألا يعودوا إلى الملك المنتظر عودتهم. ولما انتاب «هيرودس» اليأس، أصدر مرسوماً بقتل جميع أطفال «بيت لحم»، وما حولها من الذكور من سن سنتين فما دون!! وأما العائلة المقدسة فهربت إلى مصر، أرض الأمان، ملجأ الأنبياء والقديسين.
ويذكر المؤرخ اليهودى «يوسيفوس» عن «هيرودس الملك» أن مرضه ازداد فظاعة بسبب ما ارتكبه من جرائم شنيعة ضد كل الذين عاصروه، فقد أصيب بقروح في الأمعاء والقولون، وأورام مائية في قدميه، وكان يجد صعوبة شديدة في التنفس، كما أصيب بتقلص في كل أطرافه أدى إلى عدم قدرته على تمالك قواه. وحاول التشبث بالحياة عن طريق السعي نحو كل سبيل للشفاء من أمراضه، إلا أنه فشل في جميع مساعيه؛ حتي إنه حاول الانتحار تخلصاً من الآلام ولم ينجح. ويُذكر عنه أيضاً أنه أمر بجمع رجال «اليهودية» من كل المدينة وحبسهم، واستدعى أخته وزوجها لكي يأمرهما بقتل الرجال المحبوسين لديه عند موته حتي تبكى كل اليهودية يوم موته!! إلا أنهما لم يفعلا ذلك.
ما أصعب نهاية ذلك الإنسان الذى يسعى نحو ذاته فقط! ضارباً بكل القيم والمثل عرض الحائط، متكبراً ومتعمداً علي قوته وسلطانه، ظاناً أن لا إله للكون!
وهكذا قصة الميلاد مرت بكثيرين، إلا أنها أظهرت ما يحويه كل إنسان من خير أو شر، فكل من كان أميناً مخلصاً ساعياً نحو الخير تباركت حياته بالميلاد، ومن كان عنيداً في حمل الشر والكبرياء داخله ضاعت منه كل البركات.
وكل عام وجميعكم ببركة وخير.
الأسقف العام رئيس المكز الثقافي القبطي الأرثوذكسي