أهنئ المِصريِّين جميعًا بذكرى انتصارات أكتوبر المجيدة، متمنيًا لـ”مِصر” وشعبها السلام والخير والرخاء، كما أهنئ رجال قواتنا المسلحة بهٰذه الذكرى التي تعيد لأذهاننا بُطولات غيرت من نظرة العالم إلى “مِصر”. ففي السادس من أكتوبر، انطلقت الإرادة المِصرية لترسُِم مستقبلاً جديدًا بعد أن اعتقد العدُو ـ بل العالم ـ أن المعارك قد حُسمت لمصحلته. إلا أنه كما عودتنا صفحات التاريخ المِصريّ، أن لا حُدود للإرادة المِصرية وعزيمة رجالها وأبطالها.
وقد بدأت معركة النصر الشرسة في قلوب أبناء “مِصر” وعقولهم قبل أن يخوضوها؛ فقد شهِدت “حرب الاستنزاف” المجيدة كثيرًا من بُطولات أبنائنا من جيش “مِصر” العظيم، ووقف العالم إزاءها مشدوهًا. إننا لا يمكننا أن ننسى تلك الشخصيات العظيمة ـ حتى إن لم نعرِف أسماءها ـ التي أحبت الوطن وآمنت بحريته، واختارت التضحية بالنفس من أجله، ليعيش أبناء الوطن في عزة وكرامة.
أدوار عظيمة قام بها أبطال مهدت طريق النصر، كدَور الفريق الأول “عبد المُنعم رياض” شهيد “حرب الاستنزاف”، الذي جعلت “مِصر” يوم استشهاده، التاسع من مارس عام ١٩٦٩م، ذكرى وطنية لكل الأجيال، واضعة نُصب أعينها شهداء الوطن الذين قدموا حياتهم من أجل الحفاظ على الكرامة والعزة المِصرية، ليصير “يوم الشهيد”. ففي خلال “حرب الاستنزاف”، بدأ الفريق “عبد المُنعم رياض” إعادة بناء القوات المسلحة، وكان يتابع الإشراف بنفسه في اليوم السابق على استشهاده افتتاح مرحلة تلك الحرب التي أصابت العدُو بخسائر جسيمة. وفي يوم استشهاده، قرر الفريق “رياض” التوجه إلى الجبهة لمتابعة نتائج المعركة، ومشاركة جُنوده وتعضيدهم في المواجهات مع العدُو، مُصرًّا على وجوده وسْطهم ليشددهم، غير عابئ بالنيران، فأضحى قُِدوة لهم بنفسه، محققًا كلمته التي كثيرًا ما كان يرددها لأبنائه من الضباط: “كُن قُِدوة صادقة لجُنودك”؛ وبينما هو يتابع سير العمليات ونتائجها وسْط جُنوده، انهالت نيران العدُو، وبدأت معركة شرسة دامت أكثر من ساعة قادها الفريق “رياض”، إلى أن انفجرت إحدى طلقات المِدفعية الغادرة الصادرة من العدُو على مقربة منه، ليُستشهد في سبيل وطنه وهو في خطوط النيران الأمامية شَمال “الإسماعيلية”، وليصير ذٰلك اليوم رمزًا للاستشهاد من أجل الوطن.
لم يتوقف العطاء لمِصرنا لحظة واحدة منذ بَدء التاريخ، بل هي سلسلة بُطولات تقود كل بطولة منها إلى بطولة جديدة. وجاءت اللحظة الحاسمة في السادس من أكتوبر، في سلسلة فريدة من بُطولات لا تتوقف ولا تهدأ، ومن الجميع: بُطولات اختلط فيها دماء المِصريِّين جميعًا ليكتُبوا نصرًا مجيدًا لبلادهم. ولا أنسى أحد هٰؤلاء الأبطال: اللواء أركان حرب “شفيق متري سدراك” القائد الأول للُواء المشاة عبر القناة بـ”الفرقة ١٦” بالقطاع الأوسط من “سيناء” للجيش المِصريّ، وقد جمع بين النُّبوغ في المجال العلميّ وبين شجاعة الأبطال وإقدامهم ليكون أول من نال وسام “نَجمة سيناء”. قاد اللواء “شفيق متري” في “حرب ١٩٦٧م” كتيبة مشاة في مَِنطَِقة “أبو عجيلة” في “سيناء”، في واحدة من المعارك المتميزة لقواتنا المسلحة آنذاك، حيث أصاب العدُوَّ فيها بخسائر هائلة في الأرواح والعتاد. وفي أثناء “حرب الاستنزاف”، عبر برجاله إلى “سيناء” من “بورسعيد” و”الدِّڤرسوار” شرقيّ “البلاح” و”الفردان” وجنوبيهما، وقاتل العدُو في معارك “الكمائن”. وفي السادس من أكتوبر عام ١٩٧٣م، عبر اللُّواء “متري” القناة التابعة “للفرقة ١٦” من الجيش الثاني الميدانيّ؛ ليكون أول عُبور، وليصل بقواته إلى قرب “الممرات” بالقطاع الأوسط من “سيناء”؛ وهناك حقق أمجد المعارك الهجومية، ومعارك التحصين ضد الهجوم الإسرائيليّّ. وبدأت المعركة، في رابع يوم من الحرب، التاسع من أكتوبر عام ١٩٧٣م، في عطاء من أجل الوطن يتسم بكل شجاعة وإقدام. وإذا العميد “متري” يُستشهد! إذ إنه وهو يؤدي واجبه الوطنيّ، عندما كان يقاتل بجنوده في “سيناء” داخل عمق بلغ مداه قرابة ١٤ كيلومترًا، تقدَّمهم في مثال وقُِدوة إلى مسافة كيلو متر كامل في عمق “سيناء”؛ لتصيب دانة مِدفع إسرائيليّ سيارته فيُستشهَد هو ومن معه، في قصة بُطولة جديدة مسطورة بالدم.
لقد قدم ، جُنود “مِصر” ـ وما يزالون ـ نماذج حية وتضحية تعجز الكلمات عن وصفها؛ فمن منا لا يتذكر دَور أسد سيناء الرقيب “سيد زكريا خليل” ذٰلك البطل المِصريّ الذي تبِع “سلاح المِظلات” المِصريّ، واستطاع وحده إيقاف كتيبة كاملة من الجيش الإسرائيليّ بعد أن استُشهدت باقي فصيلته في الحرب! وحُسب أسد سيناء في عداد المفقودين في “حرب أكتوبر” ١٩٧٣م، إلى أن أعلن استشهاده السفير الإسرائيليّ الذي شارك في الحرب، مقدمًا متعلقاته التي احتفظ بها معه طوال تلك المدة، وهي: سلسلة الجنديّ المِصريّ الشخصية، وخطاب منه إلى والده، مع بعض الأوراق المالية، لتُسرد لنا قصة بطل مِصريّ بنفس المِداد الأحمر من الدماء الزكية؛ فقد قال عنه السفير الإسرائيليّ: [لم يكُن جنديًّا، كان أسدًا!! أسد سيناء: قتل بمفرده عشَرات من جُنودنا، وتصدى لرَتَل من الدبابات!!].
ومن لا يذكر “غريب عبد التواب أحمد” و”شنوده راغب” من أبطال الصاعقة المِصرية؟! وقد بذلا حياتهما لأجل “مِصر” وهُما معًا: لقد عبر البطلان مع مجموعة الصاعقة “قناة السويس”، وتسلقا الساتر الترابيّ ليصلا إلى أرض “سيناء” حيث اشتبكت الكتيبة والقوات الإسرائيلية، وتمكن أبطال الصاعقة من تدمير بعض الدبابات الإسرائيلية. وإذا ثلاثة دبابات تتوجه ناحية البطلين “غريب” و”شنوده”، ليواجه “غريب عبد التواب” إحداها بجسده!! في حين يُطلق “شنوده راغب” رشّاشه، رافضًا ترك قائده بعد إصابته، في إصرار على حمله بعيدًا عن نيران العدُو! ليُستَشهدا معًا، وكل منهما يمسك بالآخر وبسلاحه، بعد أن واجها ثلاث دبابات بجسديهما قبل سلاحيهما!!
ولا يمكننا أن ننسى دَور أهل “سيناء” في أثناء “حرب الاستنزاف” وبعدها حتى تحقق النصر؛ فكما ذكر السيد اللواء “فؤاد نصار” رئيس المخابرات الحربية في “حرب أكتوبر” المجيدة: [أهل «سيناء» ليسوا خونة: لولاهم ما عادت الأرض، ولا عادت الكرامة، ومن أجلهم جعلنا نَوط الشجاعة «نَجمة سيناء».].
وفي إحدى الدراسات عن دَور أهل “سيناء”، ذُكر أنهم قاموا بجُهود عظيمة ومشرفة ووطنية تُِجاه “مِصر”، إذ قد شارك الرجل والمرأة والطفل في “سيناء” بدور عظيم: فمنهم من قام بتوصيل الجُنود المتقهقرين إلى غرب القناة، ومنهم من أطعم الجنود وأسعفهم، بل من قام بتوصيل المعَدات العسكرية الخفيفة إلى الفدائيِّين وساعدهم على إخفائها؛ ولم يتوقف دَور أهل “سيناء” عند هٰذا الحد، بل كان من شارك في قَطع الإمدادات عن العدُو، وتفجير معَداته العسكرية؛ لقد تعرض بعض أهل “سيناء” الوطنيِّين الأبطال لأنواع من التعذيب: منهم الشيخ “مُحمد فريج” الذي عمِل في نقطة حرس الحدود بوسَط “نويبع”، ورفض تسليم عهدة النقطة للعدُو، وهي إحدى عشْرة بندقية آلية وذخائر مع أجهزة لاسلكية. إنها بُطولات حققها المِصريّ عبر التاريخ لا يتسع لها مِداد قلمي المتواضع.
وما تزال الفرصة أمام كل مِصريّ ليحقق كثيرًا من أجل بلاده بالعمل والإخلاص. إن أكتوبر المجيد يحمل دعوة إلى كل مِصريّ: العمل والبناء من أجل “مِصر”. فالمعارك ليست هي قتالاً ونيرانًا وطلقات وحسْب، بل هي معارك من أجل النُّمُو والبناء وإعلاء شأن البلاد. حفِظ الله “مِصر” وصانها من كل شر، وكل عام وجميعنا بخير.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأرثوذكسيّ