تمر بـ”مِصر” الآن مرحلة دقيقة من تاريخها، إذ يحاول بعضٌ تهديد أمن أبنائها الأقباط وسلامهم. إلا أن تاريخ المِصريِّين يشهد دائمًا على صُمود أبنائها أمام ما ذاقوه من ضيق وألم. لقد قدمت “مِصر” أكبر عدد من الشهداء الذين سُفكت دماؤهم على أرضها؛ ففي صفحة من صفحات التاريخ، على سبيل المثال، حاول كل من الطاغيتين “نيرون” و”دِقْلِدْيانوس” أن يَثنِيا عزم المِصريِّين عن إيمانهم، لٰكن محاولاتهم كلها ذهبت هباءً، بل قد جذبت كثيرين نحو الإيمان بالله وترك عبادة الأوثان! وهٰكذا ظل المِصريُّون يتناقلون ثباتهم وشجعاتهم وصُمودهم جيلًا بعد جيل، وسُطرت صفحات التاريخ بسيرة هٰؤلاء الشهداء السابقين والحاليِّين، في حين انتهى هٰذان الطاغيتان وأمثالهما. هٰكذا قبل أيام، شهِدت “سيناء” استشهاد عدد من أبنائها الأقباط بيد الإرهاب ليسطروا صفحات جديدة من التاريخ.
الاستشهاد
لُغويًا نجد أن لفظة “شهيد”: جاءت من الفعل “شهِد، وتعني ذٰلك الإنسان الذي يشهد بمعلومات عاينها؛ أمّا فعل “استُشهد” فيعني “طُلبت شهادته فيما عاينه” أو “سُئل الشهادة”. أمّا المعنى الاصطلاحيّ فهو يشير إلى الإنسان الذي يُقتل في سبيل الله. وفي المَسيحية، أُطلقت كلمة “شهيد” أولًا على الذين احتملوا الشدائد بسبب الإيمان ـ قُتلوا أو لم يُقتلوا، ثم أصبحت تصف الذين قبِلوا أن يقدِّموا حياتهم من أجل إيمانهم.
الشهداء
هم أُناس أحبوا الله حتى بذلوا حياتهم وسفكوا دماءهم من أجل عدم ترك إيمانهم، فهم يقدمونها “هدية حب” لله. العجيب أننا نرى سعي الإنسان الدائم نحو الحياة والبقاء والهرب من الموت، ولٰكن ما يثير الإعجاب بالأكثر في حياة أولٰئك الشهداء أنهم لا يهابون الموت بل يؤمنون كامل الإيمان أنه إنما جسر يعبر بهم إلى السماء حيث الله. وعندما نفحص حياة الشهداء، لا نجد سوى أنهم أشخاص بسطاء، تملأ الوداعة والمحبة حياتهم، يُقْدمون على فعل الخير بفرح إذ تخفيف آلام من حولهم وإسعادهم هو سر فرحهم؛ كل ذٰلك لأنهم أدركوا أن الحياة في هٰذا العالم وقتية وقصيرة جدًّا في مقابل الحياة بعد الموت؛ فقرروا أن يسلكوا بالخير والمحبة ـ هٰذين الكنزين ـ اللذين يمكنهم اصطحابهما معهم إلى السماء. لذٰلك، نراهم وقد عاشوا حياتهم غرباء، مؤمنين بأنهم سيعودون يومًا ما إلى وطنهم السمائيّ، وأن أمور هٰذا العالم إنما هي إلى زوال، وكل ما تبقى لهم هو محبتهم لله، والخير الذي قدمونه للجميع.
أيضًا أدرك الشهداء أن الحياة على الأرض هي حياة تعب، إلا أنهم سعَوا فيها بكل جِد واجتهاد وأمانة لأنها مسؤولية وأمانة من الله يحاسَبون عليها. فإن كانوا يُدركون تعب هٰذه الحياة، فإنهم يعرِفون أيضًا أهمية أن يؤدوا رسالتهم في الحياة على أفضل وجه ممكن. لٰكنهم حينما يواجهون الموت لا يهابونه: لأنهم يُدركون أن الراحة الحقيقية والحياة الفُضلى هما في السماء. وهٰكذا أصبح الموت الذي يتعرض لهم هو ربح للانطلاق نحو الحياة الفُضلى التي يتمنَونها ليتمتعوا بالسعادة مع الله الذي امتلأت قلوبهم بمحبته؛ لقد أدركوا أن الكَنز الحقيقيّ هو في الله، وأن كل أمورهم وحياتهم هي في يد الله ضابط الكل الحاكم جميع الأمور، وأن حياتهم وموتهم بيديه وحده، لا بيد إنسان أو أيّ قوة.
وحين نتعمق في حياة الشهداء، نجد أنها حياة مباركة نقية قد امتلأت بفضائل كثيرة وجاء الاستشهاد ليكللها؛ ومنها:
الشجاعة
لقد أثبت الشهداء شجاعتهم في ملاقاة الموت، فلم يخافوا اجتيازه، متذكرين كلمات السيد المَسيح: “ولٰكن أقول لكم يا أحبائي: لا تخافوا من الذين يقتُلون الجسد، وبعد ذٰلك ليس لهم ما يفعلون أكثر. بل أُريكم ممن تخافون: خافوا من الذي بعدما يقتُل، له سلطان أن يُلقي في جَهنم. نعم، أقول لكم: من هٰذا خافوا!”.
الاحتمال
قدَّم الشهداء مشاهد رائعةً لاحتمالهم الآلام والعذابات بدرجة أبهرت أعداءهم؛ فهم لم يتحدثوا عن احتمال الآلام بل كانوا هم أنفسهم نماذج له. وقد تعجب الوُلاة والحكام من تلك القدرة الفائقة على الاحتمال التي امتلكها جميعهم: شيوخًا، ورجالًا ونساءً، وأطفالًا!!
الصبر
استمرت اضطهادات الشهداء وآلامهم في بعض الأحيان سنوات!! يحاول فيها الطغاة إضعاف عزيمتهم واستنفاد صبرهم. لٰكنّ الأيام كانت تشددهم وتجذبهم نحو وطنهم السمائيّ الذي يشتهون العودة إليه. بل لقد نفِد صبر الحكام أمام صبر الشهداء؛ فكانوا عندما يتعبون من ثبات أحد الشهداء، يُرسلونه إلى حاكم آخر ليعذبه، وأمّا الشهيد فكان يملِك صبرًا لا ينتهي وقوةً لا تَخُور.
الوداعة
إن حياة الوداعة هي جزء لا يتجزأ من حياة الإنسان المَسيحيّ. وقد قدَّم الشهداء مشاهد عظيمة لتلك الوداعة؛ فلم نجدهم يتمردون أو يُثيرون الشغْب، أو يقاتلون من يقتُلهم، بل كانوا يحملون في قلبهم وداعة فائقة. وتُعد “الكتيبة الطِّيبية” التي استُشهد أفرادها جميعًا مثالًا لذٰلك؛ فقد كتبوا رسالة إلى الإمبراطور الرومانيّ يقولون فيها: “أيها القيصر العظيم: إننا جُنودك، لٰكن في الوقت نفسه عبيد الله … لسنا ثوارًا، فالأسلحة لدينا، وبها نستطيع أن ندافع عن أنفسنا ونعصاك، لٰكننا نفضل أن نموت أبرياء على أن نعيش ملوَّثين! ونحن على أتم الاستعداد أن نتحمل كل ما تصبه علينا من أنواع التعذيب لأننا مَسيحيُّون ونُعلن مَسيحيتنا جَهارًا …”.
المحبة
أمّا عن المحبة، فقد كانت لآلئ تضيء في حياة الشهداء، فقدموها إلى الجميع ـ وبخاصة أعداؤهم ـ بدرجة تفوق التصور، متمِّمين قول السيد المَسيح: “… أحبوا أعداءكم. بارِكوا لاعِنيكم. أحسِنوا إلى مبغضيكم، وصلُّوا لأجل الذين يُسيئون إليكم ويطردونكم …”، فقد تعلم الشهداء هٰذه المحبة من السيد المَسيح الذي قال: “«يا أبتاه، اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون».”. فصلى الشهداء جميعًا لأجل أعدائهم ومن يعذبهم ويقتُلهم، بل لأجل الجميع! وهٰكذا صارت حياتهم وموتهم أنشودة تعزف “ألحان المحبة” تنطلق بين الأرض والسماء!
السلام
عاش الشهداء في حياتهم متمتعين بالسلام الذي وهبها الله لهم طوالها، وقابلوا الموت بهٰذا السلام العظيم الذي حار فيه العالم! فسلام الله الموهوب منه لا يستطيع أحد أن ينتزِعه منهم؛ وهنا تبرُق أمام عينيَّ كلمات “البابا كيرلس السادس”: “لا شيء تحت السماء يقدِر أن يكدرني أو يزعجني: لأني مُحتَمٍ في ذٰلك الحصن الحصين داخل الملجإ الأمين، مطمئن في أحضان المراحم، حائز على يَنبوع من التعزية.”. إنه مشهد لحياة الشهداء: عاشوا ممتلئين سلامًا، ورحلوا مظللهم السلام الذي لا ينزِعه سيف.
وفي المقابل، نجد أن نهايات المضطهِدين كانت نهايات سيئة وماتوا أشر ميتة، فالله عادل لا ينسى حق كل من ظلم؛ ومن أمثلة أولٰئك: “نيرون” الذي أُبعد عن السلطة وهو ما يزال شابًّا، ثم اختفى ولم يُعثر له على جثة أو قبر!! و”دُومِتْيان” الذي قُتل في قصره بيد أعدائه وقرر مجلس الشيوخ الرومانيّ محو اسمه!! و”داكيوس” الذي سقط في يد أعدائه وذُبح هو وابنه وكثير من جيشه!! و”أُورِيلْيان” الذي ذبحه أصدقاؤه المقربون إليه!! و”دِقْلِدْيانوس” الذي اعتزل الحكم ومرِض بشدة حتى قيل إنه أنهى حياته بيديه. إن الله ضابط الكل حقًّا، ويتأنى، لٰكنه لا ينسى، هو يُمهل ولا يُهمل، ويسلِّم ولٰكن ليس إلى الانقضاء.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأرثوذكسيّ