رأينا اهتمام الله بشعبه وعنايته بهم في العهد القديم. وكانت البرية مثالـًا لتلك العناية الفائقة: فلم تتورم أرجلهم من المشي، ولم تبتل ملابسهم، ولم تتمزق أحذيتهم، ولم يجوعوا، ولم يعطشوا؛ أربعين عامـًا!! وهٰذه العناية ما تزال تقدَّم من الله في كل زمان ومكان؛ وهي لا تحتاج من الإنسان إلا إلى الثقة والإيمان، وحينئذ سيرى يد الله تُدبر كل الأمور.
والعهد الجديد يقدِّم إلينا مثالـًا على اهتمام السيد المسيح بحاجات الإنسان الجسدية؛ ففي إنجيل معلمنا مار مرقس 34:6-38 نجد حوارًا بين السيد المسيح وتلاميذه:
التلاميذ: “«الموضع خلاء والوقت مضى. اِصرفهم لكي يمضوا إلى الضياع والقرى حوالَينا
ويبتاعوا لهم خبزًا، لأن ليس عندهم ما يأكلون»”.
المسيح: “«أعطُوهم أنتم ليأكلوا»”.
التلاميذ: “«أنمضي ونبتاع خبزًا بمئتَي دينار ونُعطيهم ليأكلوا؟»”.
المسيح: “«كم رغيفـًا عندكم؟ اذهبوا وانظروا»”.
التلاميذ: “«خمسة وسمكتان»”.
فيأمرهم السيد المسيح بأن يجعلوا الشعب في مجموعات. ثم يأخذ الأرغفة الخمسة والسمكتين، ويرفع نظره نحو السماء، ويبارك، ويكسِّر، ويُعطي تلاميذه ليقدموا إلى الشعب. وهٰكذا يقدم السمكتين والخبزات الخمس إلى الشعب الموجود جميعه؛ فيأكل لتتبقى كِسَر تملأ اثنتي عشْرة قفة.
ثِق أن الله هو هو: الأمس، واليوم، وإلى الأبد؛ فمن أشبع الشعب والجموع في البرِّية قادر أن يُشبع أولاده في كل مكان وزمان. وفي عظة السيد المسيح له المجد على الجبل، يطمئن الإنسانَ أن الله يعلم حاجاته: “لأن أباكم السماويّ يعلم أنكم تحتاجون إلى هٰذه كلها.” (متى 32:6). ثم يرفع الرب أعين الإنسان إلى الهدف الأعظم “الملكوت” أو “الأبدية”: “لٰكنِ اطلبوا أولـًا ملكوت الله وبره، وهٰذه كلها تزاد لكم.” (متى 33:6).
ومن القِصص الجميلة التي قرأتُها قصة حقيقية عن أحد الكهنة قدَّم كل ما كان لديه من قمح إلى أحد أفراد شعبه المحتاجين، واثقـًا أن الله لا يدَع أبناءه مُعْوِزين. ولم تمر ساعتان حتى أرسل الله من يقدِّم إليه عشَرة أجولة من الدقيق. فقد وجد رجلـًا غريبـًا يسأله عن شيخ النصارى؛ فأعلمه أنه هو. فقال الرجل: أريد أن أقدم ما عليَّ! وأكمل الرجل حديثه أنه صاحب سفينة، وفيما هو في البحر حدث ثَقب في السفينة فبدأت تتعرض للغرق، ثم نظر من بعيد فرأى الكنيسة، فقال في نفسه: إن نجت السفينة من الغرق، سأعطي شيخ النصارى عشَرة أجولة مما عندي. حقـًا الكلمات التي تقول: “من يضع كل أموره في يد الله، يرى يد الله في كل أموره.”.
وقد تحدث الآباء عن عناية الله الفائقة؛ فيقول القديس “چيروم”: “إن كانت الطيور بلا تفكير أو اهتمام، التي توجد اليوم ولا تكون غدًا، يعولها الله بعنايته، فكم بالأحرى يهتم بالبشر الذين وعدهم بالأبديّة!!”. وأيضـًا يقول القديس “يوحنا الذهبيّ الفم”: “الله هو الذي ينمي أجسادكم كل يوم وأنتم لا تُدركون. فإن كانت عناية الله تعمل فيكم يوميـَّا، فكيف تتوقف عن إشباع احتياجكم؟ إن كنتم لا تستطيعون بالتفكير أن تضيفوا جزءًا صغيرًا إلى جسدكم، فهل تقدرون بالتفكير أن تهتموا بالجسد كله؟!”. ويؤكد القديس “كبريانوس” على الفكرة عينها أن الله الذي يهتم بالطيور يهتم بالإنسان، مقدِّمـًا إيليا النبيّ مثالـًا، حين كان يأتيه كل يوم غراب يحمل إليه الطعام. وأيضـًا يؤكد على العطاء، موجهـًا حديثه إلى من يخشى الاحتياج عندما يقدم مما لديه، فيقول: “إنك تخشى فقدان ممتلكاتك عندما تبدأ أن تعطي بسخاء، ولا تعلم، أيها البائس، أنك فيما تخاف على ممتلكات عائلتك تفقد الحياة نفسها والخلاص. بينما تقلق لئلا تنقُص ثروتك، لا تُدرك أنك أنت نفسك تنقص! … بينما تخشى أن تفقد ميراثك لأجل نفسك، إذا نفسك تفقدها لأجل ميراثك!”.
وكما أن محبة الله للإنسان تظهر في الاهتمام بحاجاته الجسدية، فإن الله يهتم بحاجاته النفسية فيقدم إليه محبة عميقة فائقة. وللحديث بقية …