تلقيت دعوة كريمة من سمو الشيخ “عبد الله بن زايد آل نهيان” وزير الخارجية وراعي مؤتمر “تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة”، وفضيلة الشيخ العالم العلامة “عبد الله بن بيه” رئيس المنتدى، لحضور المؤتمر في أبي ظبي في الإمارات العربية المتحدة مع شعب محب، ورئيس دولة مخلص هو صاحب السمو الشيخ “خليفة بن زايد آل نهيان.”
حضر هذا المؤتمر ما يربو على الثلاث مئة من العلماء، والشيوخ، والحكماء، والمفكرين، والمثقفين من جميع أرجاء المعمورة، وعلى رأسهم فضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور “أحمد الطيب” شيخ الجامع الأزهر. وإذ نقدم الشكر والتقدير إلى الدولة حكومة راشدة وشعبًا نبيلًا.
إن ما استرعى انتباهي كلمة فضيلته في افتتاحية هذا المؤتمر وأوجز ملخصًا لها:
لقد تحدث فضيلته عن: “إعادة الكَشف عن ثقافة السِّلم وبَيان محوريته في الإسلام… لإِزالة مَا رانَ على فِقه السَّلام من ظُلمَات بعضها فوق بعض، بسبب القراءة المغلوطة والتَّفسيرات الملتوية، التي أدَّت إلى أنْ تتحوَّل الأسلحة في أيدي جماعة من المسلمين إلى صدور مجتمعاتهم وأهليهم بعيدًا عن صُدور أعدائهم ومقاتليهم.” وقد أكد: “نعم، نَحْنُ الآن في أشدّ الحاجَة إلى مراجعة أمينة وقراءة نقدية لهذه المفاهيم في تراثنا الإسلامي، وبيانها للنَّاشِئة مِن التَّلاميذ ولِطُلَّاب الجَامِعَات في مُقرَّرات دِراسِيَّة جادَّة تسهم في تحصين شَباب العَرَب والمسلمين من الوقوع في براثن هذه الجماعات المُسَلَّحة، ولا مفرّ لمنتدانا هذا من دعوة المُختَصِّين واجتماعهم للاتفاق على رؤية استراتيجية واضِحة المَعَالِم بَيِّنة الأهداف والغَايات لانتِشال شبابنا من حالة الاضطراب والتَّذَبذُب العَقدي والفكري في إدراك أُصُول الدِّين وأُمَّهَات قضايا العقيدة والأخلاق، إلى حالة الهدوء النَّفسـي والاستقرار الإيماني والفَهمِ الصَّحِيح.”.
وقال أيضًا فضيلته: “«وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ»{الأنبياء: 107}، والرَّحمَة يلزمها السَّلام، بل هي مع السَّلام وجهان لعُملة واحدة، … ويكفي أنَّ القُرآن يسوي بين قتل نفس واحدة – بغير حق أو فسادٍ في الأرض- وقتل سَائِر النَّاس، وبين إحياء هذه النَّفس وإحياء جميع البشـر.. «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَــا النَّاسَ جَمِيعًا»{المائدة: 32}. بل إنَّ الإسلام ليُحرِّم مجرد ترويع الإنسان وتخويفه، حتى لو كان التَّرويع على سَبيل المُداعبة والمزاح، يقول النبي: «منْ أشارَ إلى أخيه بحديدةٍ، فإنَّ الملائكةَ تلعنُهُ حتَّى يَدَعهُ وإن كان أخاه لأبيهِ وأُمِّهِ»، وقال: «لَايَحِل ُّلِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا»، ولقد بلغت رحمته ورفقُه بالحيوان أنَّه رأى مرة جملاً تتساقط الدموع من عينيه، وتبدو عليه أمارات التَّعَب والإرهاق، فاستدعى صاحب الجمل وكان غُلامًا من الأنصار وقال له: «أفلا تتقي اللهَ في هذه البهيمة التي مَلَّكَكَ اللهُ إياها؟ فإنه شكى إليَّ أنك تُجيعه وتُدئبه»، ولا ينبغي أن نستنكر هذا التَّواصل الحَي بين الأنبياء وبين الكائنات الأخرى من حيوان ونبات وجماد، … “أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّــجَرُ وَالــدَّوَابُّ وَكَثِيـــرٌ مِّنَ النَّاسِ» {الحج: 18}، “وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ» {سبأ: 10}، ومعنى أَوِّبِي معه: «رجِّعِي معه» الذِّكر والتسبيح.”.
وأضاف فضيلته: “وبِهذا المَنطق نفهَم قول النَّبي فيما رواه الإمام مُسلم: «إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ»، وانطِلاقًا مِن هَذِه النُّصُوص القاطِعة يَتبيَّن لنا أنَّ علاقة الإنسان المسلم بغيره أيًّا كان هذا الغير إنسانًا أو حيوانًا أو نباتًا أو جمادًا هي في فلسفة الإسلام علاقة زمالة وصُحبة وارتفاق، تقوم أوَّل ما تقوم على مبدأ السَّلام والتَّعارُف، وأنَّ الإسلام من هذا لمُنطلق تحديدًا لا يُبيح القَتل إلَّا في حالة واحدة وحيدة هي ردّ الاعتِداء، … ومنع من هَدم بنيانهم، وحرق أشجارهم وقتل نحلهم وحيواناتهم إلَّا لضـرورة الأكل ….، حتَّى قال الأديب المشهور (مصطفى الرافعي): “إنَّ لسيوف المُسْلِمين أخلَاقًا”.
وعن السلام قال: “إنَّ مُهِمَّة إحيَاء فِقه السَّلام في دينِ الإسلام: أصُولًا وتُراثًا أمر لَمْ يَعُد ترفًا أو خيارًا مُمكِنًا، بل هو أشبه بطوق النجاة الآن. وأرى أن يتبنَّى المُنتدَى بالتَّوازي عمَلًا آخر هو جمع الكُتب والمجَلَّات التَّي تصدرها الجماعات الإرهابية المُسَلَّحة، وبخاصَّة عبر وسائِل النشـر الإلكترونيَّة، وتظهر بأكثر من لُغة غير اللُّغة العَرَبيَّة، والَّتي تحمل خَطرًا داهِمًا على الشَّباب، هذه الكتب والمقالات لابُدَّ من جمعها وتَصنِيفها ونقضها جُملةً وتفصيلًا، وثَمَّة عمل ثالث لابُدَّ مِنه لِمُحَاصَرة القواعِد العقديَّة الَّتي تنطلق منها جماعَات القَتل المُسَلَّحة، وبِخَاصَّة: قاعِدة التَّكفير، أو مَبدأ التَّكفير الَّذي أصَّلوه في أدبياتهم وضَلَّلوا به قِطَاعًا عَريضًا مِن الشَّباب المُسلِم في الشَّـرقِ والغَرب، ومِن المُحزِن … أنْ تصدر في هَذِه الأيَّام الصعبة الَّتي نعيشها الآن كُتب ومَنشُورات بأقلام طائفة مِن المُنتَسبين للعِلم، يتناولون فيها مسألة التَّكفير، ويفرِّقون فيها بين التَّكفير الجَائِز وهو تكفير المُطلق وتكفير المُعيَن الجَائِز بشـروط، ومثل هَذِه الأقوال لَا تُناسِب ظروف الأُمَّة الآن بِحال من الأحوال، ولَا تدعم قَضيَّة السَّلام الَّذي نسعى إليه جميعاً، ونَحْنُ لا نُنَاقِش هُنَا مَسألة تكفير المُطلق وتكفير المعيَن، وكيف أنَّ هذا التَّقسيم لَمْ يَرِد في كِتاب ولا سُنَّة، وإنَّما هو مِن أقوال المُتأخِّرين، الَّتي تخضع لإعمال النظر والأخذِ والرَّد. ولكنا نُنبِّه فقط إلى أنَّ بعض الفتَاوى أو الأحكَام الَّتي يَصدرها هذا الفَقيه أو ذَاك في العُصُور الخَوالي إنَّما صَدَرت لِمُواجَهة ظروف استِثنائيَّة لا يُمْكِن القِياس عليها الآن، وقَضيَّة التَّكفير أصدَق مِثال على دعوانا هَذِه، حيثُ نرى جماعات الإرهاب المُسَلَّح اليَوم تستند إلى أحكام يَنقلونها عن ابن تَيمية وابن كَثير رَحِمَهما الله، تَنُص على أنَّ النُطق بالشَّهادتين لا يَكفي للحُكْم بإسلام الشَّخص، بَل لابُدَّ من اقْتِران العَمَل بهما والخُضُوع الكَامِل لأحكَام الإسلام، والالتِزام “بالدِّفاع عن الجَماعة والدَّولَة الإسلاميَّة والشَّـريعة”، فإذا خَرج المُسْلِم، أو المُسْلِمُون عن هَذِه الشُّـروط فَهُم كُفَّار يَجب قِتالهم.. وجَليَّة القَول في هذا الفَهم المَغلُوط أنَّ ابن تيمية رَحِمَه الله إنَّما قال ذلك الكلام في القرن السَّابع والقرن الثَّامن الهجريين، وكان مشغولًا بمُواجهة المعَارك العَنِيفَة الدَّامية بين المسلمين وغارات التَّتار الذين أسقطوا بغداد واستولوا على الشَّام ووصَلوا إلى مصـر التي هزمتهم في عين جالوت.. وكان التَّتار في ذلكم الوقت يُظهرون إسلامهم ويُبطنون كُفرهم، وكان حُكَّام الدُّويلات المُسْلِمة لا يجدون حرجًا من الاستعانة بهم في السَّيطرة على ما تبقَّى في أيديهم من البِلاد، وفي هذه الظروف تحديدًا قال ابن تيمية مَا قال من أنه لابُدَّ مِن اقِتران العَمَل بالشَّهادتين حتَّى يَمتاز المسلم عن غيره من المُتظَاهرين بالإسلام الذين يَكيدون للمسلمين ويقتلونهم.. والسُّؤال هو: كَيف يَصِحّ قياس مُجتمعاتنا الإسلاميَّة الآن على مجتمعات اختلط فيها المُسْلِم بالكافر والمُنافق، والعَرَب بالتَّتار والمَغُول؟! وهل يمكن أن يسوَّى في الحُكم الواحد بين المجتمعات المُسْلِمة في القَرن الواحد والعشـرين وبينها في القرن السَّابع والثَّامن الهجريين!! وكيف أُلغيت كُل الفُروق والسِّياقات والمُلابسَاتِ الفقهيَّة والسِّياسيَّة والظروفِ القاسية الَّتي أثمرت هذا النَّوع من الفَتَاوى المؤقَّتة لِتطُل برأسها من جديد وتُبرِّر لجماعات التكفير إعلان الجِهاد على مجتمعات تُؤمن بالله ورسوله وتُقيم الصَّلاة وتُؤتي الزَّكاة وتَصُومُ رمضان وتحج إلى بيت الله الحَرام، ثُمَّ أين ما اتَّفق عليه فقهاء الأمة من أنَّ الفَتوى تَتغيَّر بتغيُّر الزمان والمكان والظروف والأحوال!!
إنَّ هَذِه الفَوضى الدَّمَويِّة -الَّتي تتَّخِذ من مَقُولة التَّكفير حُجَّةً وسَندًا- تحتاج إلى استِنفار علمائي يَتصَدَّى لهذه الفِتنة في كُل عَواصِم العَالَم العَرَبي، بَل في كُل مَدينة فيه، ولا يَتحقَّق ذَلِك إلَّا بالنزول إلى حقول التَّعليم وبخاصَّة: التَّعليم قَبل الجامعي.. ولَعَلَ اجتماعًا يلتقي فيه المسؤولون عن التَّعليم في العالم العربي وأيضاً المسؤولون عن المدارس والمعَاهِد الدِّينية لِوضع مَنهج عِلمي مُشترك يستند إلى رأي الجمهور في النَّهي عن التَّكفير نهيًا قاطعاً لا لفَّ فيه ولا دوران، ويصاغ في مُقرَّر دراسي جاد يفند أغاليط التَّكفيريين تفنيدا فكريًّا وتربويًّا على مستوى الوطن العَرَبي – أقول لَعَلَ اجتماعًا كهذا أصبَح الآن ضَرورة من الضَّرورات القُصوى، ذلكم أن التركيز على التَّعليم أو الخِطاب التَّعليمي أهَم وأجدى من التَّركيز على خِطَاب الجُمهور، لأن القَاعِدة العَريضة من الجَماهير لاتزال مُحصَّنة ضِدَّ ثقافة التَّكفير، بِخلاف الجيل الجَديد الَّذي يعول في اكتساب المعرفة على وسائل الاتصال الإلكترونية، وهي مُخترقة اختراقًا كاملًا من قِبل هذه الجماعات، وتستهدف أوَّل ما تستهدف شباب الطلاب من المرحلة الثانويَّة والجامعيَّة.
واختتم فضيلته ببيان قال فيه: “أنَّ الحملات التي تشنها وسائل الإعلام على الخطاب الدِّيني بحسبانه المسؤول الأوَّل والأخير عن ظهور “داعش” وأخواتها وبنيها وحفدتها هي حملات تتصف بالسطحية في تبسيط الأمور، وهي إذ تختزل أسباب ظهور هذه الجماعات في سبب واحد هو: الخطاب الدِّيني فإنها تتغافل أو تتعامى عن عوامِل أخرى دفينة دفعَت بهؤلاء الشباب إلى انتهاج العنف المُسَلَّح كحل أخير يائس لتغيير مجتمعاتهم!
إنَّ الإخفاقات المتتالية وثقافة التهميش التي عاشها هذا الجيل على أكثر من مستوى أسهمت إسهامًا واضحًا في شعور الكثيرين بالإحباط واليأس، وبخاصة الإخفاقات السِّياسيَّة والاقتصاديَّة والنَّفسيَّة، والخِطاب الدِّيني وحده لَيس هو الحَل، بل هو جزء من حل المشكلة، فهناك خطابات عِدَّة: سِياسيَّة، واقتصاديَّة، وتعليميَّة، وثقافيَّة، وإعلاميَّة، وفنيَّة كانت كلها معاول هَدم وتحطيم لآمال النَّاس وأحلامهم وتحتاج الآن إلى إصلاح لا يقل شأنًا ولا خطرًا عن إصلاح الخِطاب الدِّيني.”
وفي النهاية نصلي من أجل السلام في العالم بآسره، وفي الوطن العربي، و… وعن مصر الحلوة الحديث لا ينتهي،،،،
الأسقف العام رئيس المركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي