تأتي ذكرى أكتوبر بانتصاراته المجيدة، متجددةً عبر سنوات، تحمل معها نسمات المحبة التي يحملها المِصريُّون لبلادهم، ومحبتَهم بعضهم لبعض دون تفريق إذ الجميع واحد كلٌّ يؤدي مُهمته من أجل عُبور الأزمات، وهم دائمًا وأبدًا شعب واحد أوقات المِحن والضيق كما أوقات البناء والعمل.
وفي “السادس من أكتوبر”، قدَّمت “مِصر” للعالم درسًا في قدرة المِصريّ طالما تكرر على صفحات التاريخ بين الحين والآخر؛ وكثيرًا ما قدَّم شعبها أنشودة مِصرية خالدة تهُز أصداء نغماتها العالم ليقف مشدوهًا أمام عبقرية المِصريّ ومحبته لبلاده. كان تحرير الأرض هدف كل مِصريّ وحُلمه، وقد ظن العالم أنه حُلم بعيد المنال، ولٰكنه تحقق مع “السادس من أكتوبر” عام ١٩٧٣م، بأسلوب أذهل العالم. يقول چنرال “Sir Farrar-Hockley” مدير تطوير القتال في الجيش البريطانيّ الأسبق: “إن الإنجاز الهائل الذي حققه المِصريُّون هو عبقرية ومهارة القادة والضباط، الذين تدربوا وقاموا بعملية هجومية جاءت مفاجأة، خاصة للطرف الآخر، مع أنها تمت تحت بصره.”!! وقد وصف وزير الدفاع الأمريكيّ آنذاك عُبور الجيش المِصريّ للقناة: “إن عُبور القوات المِصرية لـ«قناة السويس» واقتحامها لـ«خط بارليف» علامة بارزة في الحرب الحديثة سوف تغير الاستراتيچية العسكرية”. وفي صحيفة “The Observer” البريطانية الصادرة في ٢٠/١٠/١٩٧٣م: “لقد واجه الإسرائيليُّون خَصمًا يتفوق عليهم في كل شيء، ومستعدًّا لحرب استنزاف طويلة. كذٰلك واجهت «إسرائيل» في نفس الوقت خَصمًا أفضل تدريبًا وأمهر قيادةً.”.
لقد تمكن المِصريُّون من النصر حين كان الجميع يؤمنون بأنه لا مجال للانتصار أو مجرد التفكير في الحرب!! إلا أنه هناك من عناصر النجاح والاستعداد ما ساعدت على تحقيق الحُلم ليصبح حقيقة على أرض الواقع:
أولاً: ذكاء المِصريّ
يُعد العقل المِصريّ من أذكى العقول وأنجحها على مستوى العالم في المجالات كافة. ولقد أثبت المِصريُّون تفوقهم في كثير من دُول العالم في عديد من المجالات، فعلى سبيل المثال: سِير د. “مجدي يعقوب” جراح القلب العالميّ، والعالم د. “أحمد زويل” حائز “نوبل” في الكيمياء، وم. “هاني عازر” خبير الأنفاق بـ”ألمانيا”، وم. “إبراهيم سمك” خبير الطاقة بـ”ألمانيا”، وغيرهم كثيرون؛ لا يسع الوقت لذكر جميع الأبطال المِصريِّين.
وهٰكذا تجلت هٰذه العقلية العبقرية بذكائها المنقطع النظير في “حرب أكتوبر” فرسمت خُطوات النصر، ونفذها أبطال اتسموا بالمهارة الشديدة وحب الوطن إلى أبعد الحُدود. يذكر المؤرخ العسكريّ الأمريكيّ الشهير “Trivor Dupuy” رئيس منظمة “HERO” المعنية بالدراسة والتحليل والتقييم للحُروب والصراعات العسكرية التاريخية: “… فليس هناك شك من الوِجهة الاستراتيچية والسياسية في أن «مِصر» قد كسَبت الحرب. إن كفاءة الاحتراف في التخطيط والأداء الذي تمت به عملية العُبور لم يكُن ممكنًا لأيّ جيش آخر في العالم أن يفعل ما هو أفضل منها … على الأخص عنصر المفاجأة التي تم تحقيقها … النجاح الملحوظ في عُبور «قناة السويس» … لقد فشِلت المخابرات الإسرائيلية فشلاً ذريعًا حيث تركَّز نشاط المخابرات العسكرية في النيات المعادية، في حين حدث تجاهل للقدرات المعادية لأنها لم تكُن في الحُسبان …”.
ثانيًا: تدريب مستمر
يقولون: “في كل صباح لديك خِياران: إما أن تستمر في النوم لتستكمل أحلامك، وإما أن تستيقظ لتحققها؛ ولك وحدك الاختيار.”. لقد حلَم أبطال أكتوبر بالنصر، وقرروا في كل صباح جديد أن يستيقظوا ليحققوا الحُلم؛ بل لقد واصلوا ليلهم بنهارهم لتحقيقه، فلا عجب من تلك الإنجازات التي حققوها. وتذكر صحيفة “Haaretz” الإسرائيلية في الثامن من نوڤمبر عام ١٩٧٣م: “إن البحْرية المِصرية تفوقت على البحْرية الإسرائلية خلال «حرب أكتوبر»، وخاصة في مجال الصواريخ.”. ولا يمكننا أن ننسى الفريق الأول “فؤاد مُحمد أبو ذكري” أحد قادة القوات البحْرية المِصرية البارزين، أحد المخططين البارعين للعمليات الحربية البحْرية، وأهمها تدمير المدمرة “إيلات” بوصفها أول عملية في العالم تضرِب مدمرة باستخدام زوارق الصواريخ، وذٰلك في ٢١/١٠/١٩٦٧م تاريخ اتخذته القوات البحْرية المِصرية عيدًا لها، وهو أيضًا القائد الذي أعاد بناء القوات البحْرية وقادها في “حرب أكتوبر ١٩٧٣م” ليَبهَر العالمَ مجدَّدًا في تخطيطه لحصار مضيق “باب المندب”، ومنع السفن الإسرائيلية من المرور؛ وفي هٰذا الصدد يذكر المؤرخ العسكريّ “Trivor Dupuy”: “… لقد خاض المِصريُّون الحرب البحْرية في جوهرها بأسلوب استراتيچيّ، وخاضها الإسرائيليُّون بأسلوب تَكتيكيّ. فرض المِصريُّون حصارًا ناجحًا على حركة الملاحة إلى ميناء “إيلات”: وذٰلك بإغلاق مضيق «باب المندب»، ويبدو أن حصارهم في «البحر المتوسط» منع معظم السفن المحايدة والإسرائيلية من الاقتراب من الشاطئ الإسرائيليّ في الجبهة الجنوبية …”.
أيضًا ذكر الصِّحافيّ البريطانيّ “David Hirst” في كتاب “البندقية وغصن الزيتون”: “لقد غيّرت «حرب أكتوبر» ـ عندما اقتحم الجيش المِصريّ «قناة السويس» واجتاح «خط بارليف» ـ مجرى التاريخ بالنسبة إلى «مِصر»، وبالنسبة إلى الشرق الأوسط بأسره.”؛ وهنا نذكر الفريق “فؤاد عزيز غالي” رئيس عمليات “الفرقة الثانية مشاة” عام ١٩٥٦م، وقائد الفرقة “١٨ مشاة” التي كُلِّفَت اقتحامَ “قناة السويس” في “حرب أكتوبر” عام ١٩٧٣م: لقد ظهرت براعة اللِّواء “غالي” ـ آنذاك ـ وفطنته في الحرب حين استطاع تدمير قوات العدُو وأسلحته في نقاطه الحصينة، وتحرير مدينة “القنطرة شرق”، وصد هجماته وضرباته المضادة، والاستعداد لتطوير الهجوم في العمق شرقًا اتجاه مِنطَقتَي “بالوظة” و”رمانة”. ويستمر التاريخ في يسجل بُطولات الفرقة “١٨ مشاة” في تدمير أقوى حُصون “خط بارليف”, وتقدُّم اللِّواء “غالي” بقواته مقدِّمًا ملحمة من البطولة والتضحية والوطنية لتحرير مدينة “القنطرة”؛ لتتمكن قواتنا المسلحة من السيطرة على جميع مواقع العدُو الإسرائيليّ, ولتقوم الفرقة “١٨ مشاة” بعدئذ بتأمين مِنطَقة شمال القناة من “القنطرة” إلى “بورسعيد”. ولم تكُن المُهمة سهلة إذ كانت حُصون العدُو ـ البالغة سبْعة في قطاع “القنطرة شرق” ـ من أقوى حُصون “خط بارليف”؛ هٰذا إلى جانب المشقة البالغة في قتال المدن الذي يُعد أشد صُعوبة من حرب الصحراء!! وفي أثناء حرب “الثُّغرة”، وحصار الجيش الثالث الميدانيّ, رفض اللِّواء “غالي” تراجع القوات إلى غرب القناة، مقدِّمًا أروع نماذج الصُّمود والتحدي.
ثالثًا: إصرار وصبر
وتتسم الشخصية المِصرية بإصرارها وصبرها لتحقيق ما تصبو إليه ولو بعد حين!! وتُعد “حرب أكتوبر” من كُبريات الدلائل وأدقها على إصرار المِصريّ على تحقيق حُلمه. يذكر “حاييم هيرتزوج” رئيس دولة إسرائيل الأسبق في مذكراته: “لقد تحدثنا أكثر من اللازم قبل «السادس من أكتوبر»، وكان ذٰلك يمثل إحدى مشكلاتنا: فقد تعلم المِصريُّون كيف يقاتلون، في الوقت الذي تعلمنا نحن كيف نتكلم! لقد كانوا صبورين، كما كانت بياناتهم أكثر واقعية منا؛ كانوا يقولون ويُعلنون الحقائق تمامًا حتى بدا العالم الخارجيّ يتجه إلى الثقة بأقوالهم وبياناتهم …”.
إن الحديث عن نصر أكتوبر لا ينتهي؛ وهو انتصار يحمل في طِياته دعوة كل مِصريّ ومِصرية إلى العمل من أجل الوطن وبنائه، من أجل مستقبل نحلُم به، ويجب أن ننهض لتحقيقه، بل يمكننا أن نحققه: فلقد حبانا الله بكثير من سمات يمكنها أن تشدد من عزيمتنا لنحقق عظيم الإنجازات، بالعمل والتدرُّب والإصرار.
أهنئ المِصريِّين جميعًا بذكرى انتصارات أكتوبر، متمنيًا لـ”مِصر” وشعبها العظيم السلام والخير والرخاء. وكل عام وأنتم بخير. وحفِظ الله “مِصر” وصانها من كل شر.