تحدثنا فى المقالة السابقة عن “الخيانة” لُغويًّا، ورفْض الأديان والقيم والأخلاقيات لفعل الخيانة بأى أسلوب أو طريقة، إذ إنها تغير سمات المجتمع الإنسانى من الرقى والتقدم والبناء إلى ما يسوء فى حياة أشبه بحياة الغابة. ثم عرضنا لبعض أوجه الخيانة: كخيانة الإنسان لذاته، أو للآخرين، أو للوطن، أو للإنسانية.
ووجدتُنى أتساءل: لماذا يخون البعض؟ وماذا يجنى جراء خيانته؟! وعصف بخاطرى كثير من الأفكار، ووجدتُ أنه قد تتعدد أسباب الخيانة لدى الإنسان: ففى بعض الأحيان تكون الأحوال المجتمعية القاسية وغياب العدل من أسباب ثورة الإنسان الداخلية، التى تترجم فى سُلوك سلبى تجاه المجتمع والأفراد، مثلما قدَّم لنا الكاتب الفرنسى “ڤيكتور هوجو” ـ فى أشهر رواياته “البؤساء” ـ خيانة أحد أبطال الرواية “چان فالجان” لأسقف مدينة “دينى” “شارل ميريل”، عندما سرق بعضًا من الأوانى الفِضية أثناء الليل، ثم غادر منزل الأسقف هاربًا. وحين ألقت الشرطة القبض عليه، وتواجه هو والأسقف “ميريل”، تظاهر الأسقف بأنه هو الذى قدم هٰذه الأوانى الفِضية إلى “چان فالجان”، بل زاد بأن قدَّم له حاملَى شمع فِضيَّين آخرَين، متظاهرًا بأنه قد نسِياهما! ومع مغادرة الشرطة، طلب الأسقف من “چان” أن يبدأ حياة جديدة بما سيحصل عليه من المال عند بيعه الفِضيات. إن مثل هٰذا النوع من الخيانة، وإن كان غير مقبول أو مبرَّر، يرتبط بدرجة كبيرة بالمجتمعات التى تفتقد العدل والأمان والحياة الكريمة. وإصلاح هٰذه الخيانة ليس دَور شخص أو مسؤول بعينه، ولٰكن بتكاتف الجميع من أبناء الوطن للنُّهوض والعمل من أجل مصالح الوطن، وبنائه، وإزاحة غبار اليأس والألم عن وجه البلاد.
أمّا عن بعض أسباب الخيانة التى ترتبط بسلوك البشر، وتظهر فى حياتهم من نحو الآخرين كأُسرهم أو أصدقائهم أو زملائهم، فأرى أنها ترتبط كثيرًا بمشاعر عدم المحبة. إن الإنسان الذى يملِك محبة حقيقية للآخرين فى قلبه لا يمكنه أن يُقدم على خيانتهم، وإن أتيحت له الفرصة آلاف المرات! وإن تعرض لألم من الآخرين، لفضَّل أن يتوارى ويبتعد، لٰكنه أبدًا لا يخون؛ فإن المحبة حصن لجميع الفضائل التى يقتنيها الإنسان ومنها الإخلاص والأمانة.
والبعض يخون لأنه يشعر بعدم الأمان فى الحياة فتنتابه أحاسيس التعرض للخطر، فيضعف من أجل تحقيق منفعة ما على المستوى المادى أو النفسى، محاولًا اختلاق الأعذار والمبررات لفِعلته ، وكما قيل: “كل خائن يختلق لنفسه ألف عذر وعذر ليقنع نفسه بأنه فعل الصواب”. ولٰكن هيهات! فلا عذر للخيانة التى تحطم البشر وتجرحهم . وما يعتقد الإنسان أنه قد ربِحه بالخيانة، يُفقد منه حتمًا بالخيانة: فإن هٰذا هو عدل الله.
وللبسطاء الذين يتعرضون لمثل تلك الأفعال أقول: ليس السبب هو بساطتك، إنما هو عدم امتلاكك الحكمة؛ فالبساطة لا تعنى سذاجة الشخص. كُن حكيمًا وانتبه: إن خُدعتَ مرةً من إنسان فقد يكون الخطأ منه، أمّا إن خُدعتَ ثانيةً فذٰلك خطؤك أنت. ولا تكُن لك الثقة العمياء التى تجعل الإنسان يغض بصره عن أفعال الآخر، بل كثيرًا ما يبررها، فتأتى صدمة هٰذا الإنسان من وقْع الخيانة شديدة جدًّا؛ لذٰلك، لا تُهمِل تصرفات الأشخاص من حولك، بل ليكُن لك العقل الحكيم الذى يعى ما يحدث ، ولا ينقاد ، أو يقع فى تأثير المشاعر فقط، فلقد خلقنا الله بعقل وقلب ليكمِّل كل منهما نقص الآخر.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسى