هناك من يسير دروب الحياة على هامشها، ويوجد من يدخل إلى أعماقها. وفى العمق تتجلى قدرة كل إنسان على السباحة فى بحر الحياة. فكلما ازدادت إمكاناتك الشخصية، استطعت أن تدخل إلى عمق أكثر وأرحب وتتحدى مشكلات هى أشد تعقيدًا. ليكُن العمق هو أسلوب حياتك؛ فالمظاهر والشكليات هى العدو الأول لسعادتك الحقيقية.
حين تدخل إلى عمق المحبة، تستطيع أن تقدم، وتبذُل، وتسامح من يثير عليك تيارات المشكلات وأمواج الألم، ومن يسعى للنقد والهدم، بل تمد إليه يدك بالمعونة! وفى عمق المحبة أيضـًا، تسند من يحتاج إليك، وتساعد من هو وسْط ضيقه وألمه، وأنت تحسب نفسك تؤدى واجبـًا نحو الإنسان صنيعة الله التى أوجدها وأحبها، ومن ثم واجبـًا نحو الله نفسه. وأيضًا فى عمق المحبة، تعرف معنى القوة التى تستطيع بها التغلب على الضغينة والحقد والكراهية.
وحين تدخل إلى العمق فى الفكر، فإنك تتحرك فى طريق الحكمة مختبرًا كل ما يمر بك من أفكار وأشخاص، ما يجعلك قادرًا على الحكم فى الأمور بأسلوب ناضج غير متحيز فتكون أحكامك عادلة. وفى فكرك المتعمق المتأني، تتعلم الصبر وعدم التسرع، والإنصات لما يقوله الآخرون. إن عمقك يمنحك فَهم دروس الحياة، وإدراك قيمة كل ما يمر بك من أحداث. والفكر العميق أيضـًا يمكن صاحبه من قراءة شخصيات من حوله وتعرُّف حاجاتهم الحقيقية؛ فنجده يلتقط مغزى الكلمات التى تُقال، وتلك التى يريد المرء البَوح بها ولٰكن لا يستطيع، فيشجعه على الكلام بإنصاته العميق له.
عمق آخر هو فى المعرفة؛ فلا تبحث عن المعرفة التى لا تبنى، بل فتِّش عن المعرفة التى تُنمى حياتك، وتثقل مواهبك، وتفتح لك آفاقًا جديدة نحو تحقيق التميز والنجاح. اسعَ نحو المعرفة التى بها تساعد فى بناء الآخرين؛ فيمكنك أن تبدد بها ظلمة حياتهم إلى ضوء، فتصير مصباحًا منيرًا يرشد من يتخبط فى طريق حياته. وفى عمق الفكر والمعرفة، تستطيع أن تدرك رسالتك الحقيقية فى الحياة؛ فكل منا، يا صديقي، لم يوجد فى هٰذه الحياة مصادفةً، بل هو ترتيب وتدبير من أجل رسالة تحتاج إلى عمل وجهد، وإلى أداء على أكمل وجه؛ فنحن سنعطى حسابًا عنها. ورسالتك فى الحياة لن يستطيع أحد أن يؤديها بدلًا منك؛ وفى الوقت نفسه نتكامل معـًا فى الحياة لا نتقاتل؛ واليد التى تستطيع أن تهدم يمكنها أن تبني. فلتكُن لك يد البناء.
لذا، لا تقف عند شاطئ الحياة وتفقد أيامك فى تلك المظاهر التى تحوط بك، بل تَقدَّم وابحر وادخل إلى الأعماق؛ لتحقق السعادة لك وللآخرين، وتصل إلى الهدف العظيم الذى خُلقت من أجله. وكُن على يقين من أن يد الله ممتدة دائمًا مع مشرق كل صباح إلى كل إنسان أمين فى مسؤوليته التى خلق لها.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسىّ