نمضي في الحياة ونحن مارّون في طريقنا بدُروب النِّسيان؛ نعم النسيان الذي يصبح إحدى نعم الحياة، أو طريقًا إلى المشكلات. يصبح النسيان إحدى نعم الحياة حين يخفف من أنين الآلام التي نتعرض لها في دُروبنا. فالألم هو ذلك المارد الذي يمسك بمشاعر كثير من البشر لتصبح حياتهم سلسلة من النزف الذي لا يعرف معنى الراحة، والمعاناة التي لا تنتهي؛ وفي ظل تلك المشاعر يمضي البشر في طريق الحياة وهم منشغلون عنها بمقاومة ذلك المارد أو تجنبه، وكثيرًا ما يخطئون السبيل. نعم: لا أحد يبغي الألم، وإن كان هو أحد معلِّمي الحياة، لكن كما يقولون: تبدأ المشاعر متوهجة شديدة ثم تنقضي قليلًا قليلًا حتى تخمد، ويتبقى ما تعلمه الإنسان مما مر به من تجارِب.
أيضًا يكون النسيان نعمة كبيرة عندما ينسى البشر الشر والخطأ اللذين مَرا بحياتهم؛ فيمتدون إلى حياة تمتلئ بالتسامح نحو الآخرين ونحو أنفسهم. إنّ تذكر الشر لا يجلُِب معه إلا مزيدًا من الشُّرور؛ وهكذا تظل الإنسانية في معاناة شديدة ودائرة لا تتوقف من الدمار. ولكن كسر تلك الدائرة بالتسامح ثم النسيان يزرعان الخير في نفوس البشر ومن ثَم ينتشر جاذبًا الإنسان إلى كل ما هو إيجابيّ وبَناء في الحياة. قرأتُ قصة عن إحدى الزوجات التي كانت تعاني معاملة شديدة وقاسية من حماتها؛ وذات يوم قررت أن تتخلص منها فذهبت إلى قريب لها وقصت عليه معاناتها وطلبت منه أن يساعدها في قتل حماتها على أن يكون بسُم بطيء حتى لا يدرك أحد فِعلتها. وافق الرجل وقدم لها بعض الأعشاب التي تحقق لها الغرض، ولكنه اشترط عليها أن تُغيّر من معاملتها لحماتها فتكون رقيقة مُحبة لئلا يُكتشف الأمر، فوافقت. وبدأت الفتاة في تقديم كَمية قليلة من الأعشاب لحماتها وفي الوقت. نفسه قدمت محبة واحتمالًا كبيرين لجميع تصرفاتها. وبمرور الوقت بدأت الحماة تشعر باحتمال زوجة ابنها لها على الرغم من قسوتها عليها، ثم أخذت تتأثر في أعماقها حتى تحولت العَلاقة بينهما إلى عَلاقة محبة حقيقية بين أم وابنتها. وعندئذ أسرعت الفتاة تطلب من قريبها حلًّا لذلك السُّم فقد أحبت حماتها ولا ترغب في موتها، بل هي صارت لها أمًّا حنون، وأخذت تنهش بالبكاء!! ابتسم الرجل وقال لها: كنت أعرف أن ذلك سيحدث؛ فالمحبة والخير هما الطريق الوحيد لإنهاء الشر؛ ثم طمأنها بأن ما قدمه لها لم يكُن أعشابًا سامة، بل هي مقوية. وهكذا انطلقت الفتاة سعيدة فرحة.
نعم: ليست الأمور بمثل تلك البساطة واليسر فهي تحتاج إلى احتمال وتدريب، وقلب منفتح وممتلئ محبة منبعها محبة الله التي يقدمها لمن يسلك ذلك الدرب. وكل إنسان يختار دُروبه في الحياة ويتحمل مسؤولياتها ونتائجها. عزيزي: لتنسَ كل ما هو سلبيّ يمر بك حتى تتمكن من التقدم نحو كل ما هو إيجابيّ.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ