تحدثنا في المقالة السابقة عن النِسيان الذي هو إحدى نعم الحياة التي وهبها الله للإنسان: حين يتعرض للألم والمعاناة في أثناء مسيره في دروب أيام عمره، وحين يتعرض للشر من الآخرين فيغفر وينسى، إذ الشر لا يطفئه الشر بل الخير فينطلق الإنسان في طريقه بإيجابية نحو النجاح، في الوقت الذي يقضي الشر على كل من يتمسك به، وهٰذا هو عدل الله.
يكون النِسيان عائقًا في حياة البشر ومحطمًا لهم حين ينسى الإنسان رسالته الحقيقية في الحياة؛ فيسير تائهًا في دُروبها، وتنقضي أيام غربته على الأرض وهو لم يحقق ما أُوكل إليه من مسؤولية ومُهمات بأمانة وصدق؛ فتصير حياته شاهدًا عليه لا له. وما أصعبها لحظات حين يقف الإنسان ليحاسَب أمام الله على أيام العمر التي فرت من بين يده دون أن يؤدي رسالته!
أيضًا من أصعب الأمور: أن ينسى الإنسان وعوده وعهوده للآخرين فتتضاءل نظرة البشر نحوه ويفقد معها كل معنى للوفاء والإخلاص. إن من ينسى وعده يعتبر ما قيل كلمات لن تؤثِّر! وعلى النقيض تمامًا، فالبشر يحكمون عليك من خلال ما يرَونه من أعمال تتوافق هي وما سمِعوه منه من كلمات؛ لذٰلك عليك أن تُدرك مدى تأثير ما تقول وخطورة ما تقدم من وعود، إذ هي ترسُِم صورتك ومصداقيتك لدى الآخرين. فلا تقدِّم عهودًا لا تستطيع أن تفي بها.
أتذكر قصة عن أحد الملوك يُدعى “النعمان” كان له يومان في كل عام: الأول يُطلِق عليه “يوم البؤس” يقتُل فيه من صادفه، والثاني “يوم النعيم” يُحسن فيه إلى من لقيه. التقى “النعمان” رجلًا يسمى “الطائيّ” في يوم بؤسه، وعلِم الرجل أنه مقتول، فطلب إلى الملك أن يمهله حتى يصل إلى أطفاله الذين لا سند لهم في الدنيا سواه، ليقدِّم إليهم قُوتهم، وليوصي بهم أهل الخير، ثم يعود آخر النهار لتنفيذ حكم الملك. رق له قلب الملك، لٰكنه أصر ألا يأذن له بالرحيل إلا بعد أن يجد رجلًا يضمنه، فإن لم يعُد يُقتل هو بدلًا عنه!! ولم يجد “الطائيّ” سوى نديم الملك “شريك بن عدي”، فطلب إليه أن يضمنه بعد أن وعده بالعودة قبل حلول الظلام، فضمِنه. اقترب المساء، وبدأ الظلام يُسدل أستاره على مملكة “النعمان”، ولم يكُن الرجل قد عاد بعد. فطلب الملك من “شريك” أن يستعد للموت! وبينما هما يتحادثان، إذ يظهر في الأفْق رجل يعدو سريعًا حتى وصل، وإذا هو “الطائي”! وعند تلك اللحظة، سأله “النعمان” عن سر عودته بعد أن أفلت من الموت، فأجاب: الوفاء بالوعد؛ وعندئذ توقف الملك قليلًا، وقرر رفع يوم البؤس عن البشر، وأكرم كلا الرجلين.
إن الحياة مواقف تشير إلى نوعيات البشر المتعددة، وتمضي الأيام ومعها تحمل أنفس من يحيَون على الأرض، ولٰكن يبقى دائمًا الوفيّ الصادق الأمين، وإن انتهت حياته، فإن ما قدمه من مثال لا ينتهي أبدًا. وللحديث بقية …
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ