بدأنا الحديث في المقالة السابقة “ليتني …!” عن رحلة الحياة التي يلتقي فيها الإنسان أنواعًا متعددة متباينة من البشر، وكيف عليه تعلُّم أن في التَّرحال دَورًا بالنسبة إلى كل نوع يلتقيه: فهناك من يحبه، وهناك من يعلمه، وآخر يختبره، وهٰكذا يتعلم تفهم حقيقة كل نوع، وأسلوب معاملته، ومساحة وجوده في حياته. ثم تحدثنا عن أولٰئك الذين يمتلئون بالمحبة من ذوي القلوب النقية والمشجعة في مسيرة الحياة.
أيضًا من أولٰئك الذين يُحبونك هٰؤلاء الذين تشعر أنهم في مسيرة الحياة يعضدونك ويسندونك في الوقت نفسه الذي تجتاحك مشاعر الوهن والضعف وعدم القدرة على مواصلة طريقك؛ وإذا بأيديهم تمتد وسط ظلمة الحياة، تحمل ومضات من نور وأمل، وتبُث بريق راحة وسلام؛ فتتشدد في تَرحالك وتكمل الطريق؛ إنهم بشر قد جاد بهم الله على حياتك لم يتعلموا سوى أن يهبوا ويقدموا! إنها قُلوب امتلأت بأنشودة الرجاء والمحبة، وتُعلِّمها لمن تقابله في الطريق علَّه يُتقنها ويشدوها!!
ونوع آخر يحمل المحبة الحقيقة: فيراعي حاجات البشر المادية ومتطلباتهم النفسية والروحية مقدِّمًا إياها بكل سعة، ومانحًا إياها للجميع، دون انتظار مقابل بشريّ؛ إنهم أُناس قد ثبَّتوا أنظارهم أولاً وأخيرًا في الله واهب الخيرات لكل المسكونة، يُعطون دون أن ينتظروا أن يُطلب منهم! تعلموا فَهم أعماق الإنسان واحتياجه، شاعرين بآلامه وحَيرته وأفراحه، فيهبون كل ما يمكنهم أن يقدموه لإسعاد البشر؛ إنهم ذوو القلوب الواسعة التي تحمل في أعماقها ملامح الإنسانية.
ولا يمكننا أن ننسى في حديثنا من يقدم النصيحة الخالصة لك دون ربح يَجنيه من ذٰلك سوى خيرك أو لنقُل: خير نابع من قلبه المحب لك، وسعادته في إزالة الصخور التي تعترض مسيرك نحو التقدم والنجاح. وقد يتساءل أناس: أهناك فارق بين النصيحة والنقد، فإن كليهما كشف لأخطاء ونقاط ضعف؟! نعم: فارق عظيم في الدوافع التي تحرك كل منهما، فنحن نقدم النصيحة لمن يهمنا أمره وسلامه ونجاحه، نقدمها بقلب مفتوح يحمل نوعًا من المحبة التي تُشابه محبة الأبوين ، أو كالصديق الحميم الذي يُعد نصفًا آخر لصاحبه. أمّا النقد فهو يحمل من الأفكار أكثر من المشاعر: فيمكنك نقد موقف، أو كتابات، أو أعمال، دون أن تعرِف أصحابها، في حين لا يمكنك أن تقدم النصح المناسب للشخص وأنت لا تعرفه . وفي كلتا الحالتين : لا تُهمِل ما يقال لك، بل فكِّر به جيدًا قبل الحكم على صلاحه أو فساده .
أعجبتني كلمات الكاتب الشاعر “جُبران خليل جبران” حين نشر الكاتب الأديب “مصطفى لطفي المنفلوطي” نقدًا في جريدة “المؤيَّد” لقصة كتبها الأول بعُنوان “وردة الهاني” ونُشرت في كتاب “الأرواح المتمردة” ، فقال : “أمّا أنا فقد سُررتُ جدًّا بالانتقاد، لأن الانتقاد هو غذاء المبادئ الجديدة، خصوصًا إن كان صادرًا من رجل أديب مثل «المنفلوطيّ»”. لقد أدرك “جُبران” أهمية النقد البناء الذي يمكن أن يصبح غذاءً يقوّي الأفكار ويعزز المبادئ إلى أن يشتد عودها دون اعجواج أو ضعف ؛ فإن كانت تلك هي النظرة إزاء النقد، فكم يجب أن تكون نظرتك نحو نصيحة صادرة من قلوب صادقة ؟!
وللحديث بقية …
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ