استكملنا فى المقالة السابقة بعض مبادئ الإنسانية فى المعاملات بين البشر: كأن يعامل الشخص الآخرين كما يرجو منهم أن يعاملوه ، وأن يكون متفهمًا لوِجهة نظر الآخَر، مقدِّرًا رؤيته الخاصة للأمور التى من الممكن أن تختلف فى بعض تفاصيلها أو كليةً عن رؤيته . وقدمنا قصة “ذات القبعة الحمراء” التى أنقذت أحد الحيوانات الصغيرة وأطلقت عليه اسم “الوحش الصغير”، وأولته رعايتها واهتمامها، إلى أن فر من غرفتها ذات ليلة. وتمضى الأيام لتجد وحشها الصغير وقد عاد إلى منزله المعد بغرفتها ، ويدخل رأسه فى قبعته، وينام! فحينئذ يتردد فى فكرها : أدركَ وحشى فى النهاية ما فعلتُه من أجله !
لم تنتهِ القصة ، بل استمرت فى إعادة لأحداثها، ولٰكن هٰذه المرة عن وجهة نظر الوحش الصغير، قائلة: فى أحد الأيام المشرقة الجميلة ، بينما هو يلعب ويتأرجح على أحد أغصان شجرته المرتفعة التى تتوسط الغابة، إذ به يجد وحشًا كبيرًا يُسرع نحوه ويُمسك به ويخطفه ! لم يُدرِك إلى أن يسير به ذٰلك الوحش، حتى وجد نفسه فى حوض مياه، فى مكان صغير مظلم، يشعر بالعذاب والألم . يستكمل الوحش الصغير وصف أيامه التالية فيذكر أنه كانُ يُجَرّ كل صباح ليمشى مسافات طويلة دون هدف أو غاية، وكانت تنتابه مشاعر الذل إذ يشعر أنه يساق كعبد فى يد خاطفه!!!
وذات يوم، أخذه خاطفه إلى مكان يمتلئ بالوحوش الكبيرة أمثاله، فشعر بإزعاج شديد من لمسات تلك الوحوش وضجيجها وهى تلعب به!! وأمّا عن منزل الوحش الكبير، فيضيف الوحش الصغير أنه عاش فى سجن ضيّق صُنع له من الكرتون وكُتب عليه “المنزل”، لٰكن، أين هٰذا من منزله الحقيقيّ: غابته الواسعة؟! وفى ذات ليلة، وجد خاطفه يضع على رأسه قبعة ضيقة، وشعر بالضيق الشديد، وبأن حرارة جسده تزداد؛ لم يكُن يدرى ما يمكن أن يفعله حتى وجده يفتح نافذة الغرفة، فكانت تلك هى فرصته للهرب، فألقى بقبعته وهرب إلى غابته الرحبة التى طالما عاش فى ظلال أشجارها. ومرت الأيام، إلى أن جاء يوم شديد البرودة، فاشتاق أن يعود إلى منزل ذٰلك الوحش الكبير الذى خطفه، وبحث عنه إلى أن لمحه واقفًا بقبعته الحمراء!!! فدخل منزله مسرعًا ليجد نفسه وقد شعر ببعض الدفء فى صقيع ليلة قارسة، عاقدًا النية على أن يعود فى الصباح إلى غابته الجميلة مرة أخرى!!!
من الممكن أن تبدو أنها إحدى قصص الأطفال، لٰكنها فى واقع الأمر تؤكد أحد مبادئ المعاملات الإنسانية المهمة: أن ليس بالضرورة أن يرى الآخرون الأمور كما تراها أنت! إن رؤية الإنسان للأحداث تختلف من شخص إلى آخر، وتفسيراته للأمور قد تتفق وقد تبتعد فى مفاهيمها: فعلى سبيل المثال ما أدركته الفتاة أن ذٰلك الحيوان فى خطر شديد، وأنها أنقذت حياته، كان فى وجهة نظره هو أنه كان يلعب ويتأرجح على أحد أغصان شجرته ثم أختطف! وهٰكذا فى جميع أمور الحياة: دائمًا رؤى مختلفة للأحداث نفسها وللأمر الواحد. وكما ذكرنا، فإنه فى العَلاقات الإنسانية الناجحة يحتاج كل إنسان أن يستمع ويتفهم رؤية أخيه للأمور لكى لا يرى كلاهما الآخَر وحشًا كبيرًا أو صغيرًا!!
وللحديث بقية …
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسى .