تحدثنا عن معرفة الإنسان لذاته، وكيف أنها تؤثر في رؤيته لأمور الحياة ومسلكه فيها، وترتبط على نحو لا يمكن تجاهله بنجاح الإنسان أو فشله في الحياة؛ ثم تحدثنا عن أحد مفاهيم تلك المعرفة: أنك لستَ أفضل من أحد، ولستَ كأيّ أحد، ولستَ أقل من أحد. وكذٰلك أهمية إدراك كل شخص أنه ليس أفضل من الآخرين من أجل تميزه في مجال ما، إذ جوانب القوة والضعف واردة في كل شخص، وأيضًا جوانب الإبداع تتنوع بين البشر. وفي الوقت نفسه، فإن كل إنسان له صورته المتفردة التي تطابق شخصًا آخر حتى في المجال الواحد؛ وهٰذا التنوع هو ما يحقق التكامل بين البشر ليتمكنوا معًا من تحقيق الإنجازات، بل يُعد إحدى دعائم بناء المجتمعات.
لستَ أقل من أيّ أحد!
كما أن الإنسان “ليس أفضل” و”لا مثل” أيّ أحد، فهو أيضًا “ليس أقل” من أيّ أحد. فكل منا له المواهب والإمكانات التي تميزه. أما معاناة كثيرين جراء رؤيتهم السلبية نحو ذواتهم، فهي الطريق الأول والأشد نحو تحطيم أيّ نجاح يمكن أن يحققوه في رحلة حياتهم؛ وتأتي تلك النظرة السلبية: ربما من خبرات الإنسان في الصغر، أو الأسلوب الذي تربى به بين بيئة تستجلِب كل ما هو سلبيّ فصار كأنه واقع حياة له! أو ربما لعدم محاولته أو محاولة أحد من محيطيه اكتشاف نقاط القوة والتميز والابتكار فيه. وقد يكون مجرد رفض الإنسان أن يجرب شيئًا جديدًا في الحياة هو ما يجعله قاصرًا في فَهم ذاته فتتضاءل أمامه في خِضَمّ مقارنات يعقدها بينه وبين الآخرين. وفي جميع الأحوال: الحياة رحلة يكتشف فيها الإنسان نفسه وقدراته ومواهبه، وعليه أن يؤمن بوجودها في أعماقه، وعليه أن يبحث عنها، في محاولات لا تتوقف، حتى يدركها ويستثمرها، فينطلق في حياته بكل ما وهبه الله له من أجل خيره وخير الإنسانية. فماذا، لو أن والدة “إديسون” لم تحاول مع ابنها وتوقفت عند التقرير الدراسيّ الذي أفاد أنه أغبى طفل في العالم؟!! وماذا، لو توقف الطفل طٰه حسين ـ الذي صار عميد الأدب العربيّ ووزير المعارف فيما بعد ـ عند فقدانه البصر وسط ظلمات تكنفه ومصاعب حياة تعتصره؟!! وكذٰلك الشاعر الإنجليزيّ “ﭼون ملتون” الذي لم يمنعه فقد بصره من أن يصير من أبرز شعراء الأدب الإنجليزي!! وماذا، لو كان “الأخوان رايت” قد استسلما لفكرة أنهما لم يكمّلا تعليمهما ولا شهادة لأيهما، فتوقفا عن العمل المستمر والتجرِبة الدؤوب في مجال الميكانيكا الذي كان موضع شغف قلبيهما؟!! ويعوزنا الوقت إن مررنا على جميع أولٰئك الذين تخطَّوا الحواجز والعوائق ـ التي كانت كفيلة أن تجعلهم مجرد مشاهدين وغير مشاركين في الحياة ـ فأصروا أن يدركوا ذواتهم وأعماقهم في رحلة مضنية نحو النجاح.
لذٰلك اعرف نفسك، كما يقول د. “طه حسين”: “أحسَنُ المعرفة معرفة النفس”، وكُن كما أرادها الله لك بكل ما تحمل من ميزات تنميها، ونقائص تكملها، وعيوب تتخطاها.
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأرثوذكسيّ