سألنى أحدهم: عن الحياة تكتُب، فماذا تعتقد فيها ؟! أجبته : أراها رحلة نسير دروبها، ومع كل خطوة من خطواتنا نجتاز اختبارًا جديدًا يُبرز جانبًا من جوانب تلك الإنسانية التى وهبها الله ـ تبارك اسمه ـ لكل إنسان. أكملت كلماتي، بعد أن اعتلى التساؤل ملامح وجه محدثى، وتابعت : ففى صعوبات الطريق التى تصادفك يقاس ما لديك من الصبر والجَلد، وفى جميع ما تناله من نعم الحياة يبرُز ما لديك من تواضع، وفى كلماتك تقاس حكمتك وأفكارك، وفى استمرار المسير يقاس الأمل والعزيمة، أمّا الإنسان ففى المواقف يقاس. تلك هى الحياة فى اعتقادى بجملتها.
صمت محدثى قليلاً، وشرد بفكره بعيدًا، واكتست ملامحه بحزن مفاجئ، ثم عاد وكأنه قادم من رحلة طويلة امتلأت بالشُّجون والذكريات المؤلمة، ثم قال: ألا ترى أن الحياة لبعض منا لا تحمل سوى الصعوبات فقط، وقلما تجد فيها ما يبهج النفس؟!! قلت قد تختلف النسب من شخص إلى آخر وأعتقد أن ما يحددها هو ما وهبه الله لكل إنسان من سمات فى الشخصية قادرة على مواجهة ما تمر به من ظروف، ولٰكنى أعتقد أننا جميعًا نَلقَى الصعوبات، وفى الوقت نفسه لدينا من النعم التى إن فكرنا قليلاً فيها لابتهجت أنفسنا.
ساد صمت، ثم تابعت: ذات يوم كان فتى يلعب فى إحدى الحدائق العامة. ثم جلس بعد أن أنهكه التعب على أحد المقاعد الخشبية، فكانت جِلسته إلى جوار صبى آخر فى مثل عمره . ابتسم الصبى الجالس إليه وكأنها دعوة إلى الحوار . ولٰكن فتانا لم يرُد على ابتسامة الصبى، بل اختلس نظرة إلى ملابسه الغالية الثمن النظيفة، وأمعن فى ملابسه هو الرخيصة . وكان أشد ما لفت نظره حذاء الصبيّ! فقد كان حذاءً رياضيًّا جميلاً غالى الثمن. ثم أشاح بوجهه سريعًا بعد أن نظر إلى حذائه الممزق؛ لتجتاح نفسه ثورة عارمة من الغضب والألم!!! كانت التساؤلات تنهمر فى أعماقه أمطارًا رعدية: لِمَ لا يكون لى مثل هٰذا الحذاء؟ لماذا يجب أن أعانى أنا، فى حين ينعم الآخرون فى سعادة وهناء وراحة؟!! لماذا؟ … لماذا؟ …
وفى خضم تساؤلاته، لم يجد ردًّا على ابتسامة الصبى التى كانت ما تزال تعلو وجهه سوى أن يترك المِقعد، ويذهب بعيدًا متواريًا بحذائه الممزق وملابسه القديمة الرثة خلف شجرة كبيرة؛ وهناك وحده خلف الشجرة التى احتضنته فروعها وأخفته عن عيون الصبيّ، بدأ يعيد النظر فى حذائه لتنساب بعض الدمعات من عينيه ألمًا وحزنًا، مختلسًا النظر بين لحظة وأخرى إلى حذاء الصبيّ. ولم يُمَضِّ وقتًا طويلاً حتى شاهد سيدة تقترب منه وهى تدفع أمامها كرسيًّا متحركًا وتساعد الصبى على النهوض من على المِقعد الخشبى إلى كرسيّه للعودة إلى المنزل!! حينئذ أدرك فقط ما لديه من نعم لم يكُن يراها؛ ووقف يجرى حول شجرته وكأنه يشكر الله فرِحًا. ثم تدفقت دمعات من عينيه ربما شكرًا من أجل ما يملِك، وربما حزنًا من أجل أنه لم يُسعد قلبًا حزينًا، وربما الاثنان معًا، لا أدري!!