أتوقف اليوم قليلاً عن استكمال المقالة السابقة: إذ يوافق أحد الأيام المهمة من تاريخ “مِصر” الذى لم يتسنَّ لأى بلد آخر فى العالم أن يشهده على مر التاريخ ! ففى غُرَّة يونيو الموافق الرابع والعشرين من شهر بشنس من كل عام قبطى خصصت الكنيسة القبطية احتفالاً بتَذكار “مجىء العائلة المقدسة إلى أرض مِصر”.
لقد تباركت أرض “مِصر” على مر تاريخها بزيارات رجال الله القديسين: منهم أب الآباء “إبراهيم” نبى الله وخليله الذى لجأ إلى “مِصر” متغربًا فيها حين حدث جوع شديد فى الأرض، وعاش على أرضها “يوسف الصِّدِّيق” بعد أن بِيع من إخوته ثم صار الرجل الثانى بعد “فرعون” منقذًا “مِصر” بل العالم من مجاعة شديدة حلت بالأرض واستمرت سبعة أعوام !! وفى خلال تلك السنوات، ارتحل إلى “مِصر” نبى الله “يعقوب” ومعه أبناؤه، وأخذوا مواشيهم ومقتناهم الذى اقتنَوا فى أرض “كَنعان” ليعيشوا مع “يوسف” فى كنف “مِصر” ليعيش “يعقوب” وكل نسله معه بين رُبوعها سبْع عشرة سنة، أمّا “يوسف” فقد بقِى فى “مِصر” حتى واراه ثراها. كذلك وُلد “موسى” نبى الله وكليمه، ناشئًا فيها متأدبًا بكل حكمتها وآدابها مدة أربعين سنة، إلى أن قاد شعب “إسرائيل” عابرًا به “البحر الأحمر” إلى أرض “كَنعان”.
أمَّا الحدث الأهم الذى يحتفل به لا الكنيسة القبطية وحدها بل المِصريُّون جميعًا، فهو زيارة السيد المسيح طفلا وأمه القديسة مريم العذراء وبرفقتهما “القديس يوسف النجار” لأرض “مِصر” هربًا من “هِيرودُس الملك الذى أراد قتل الطفل، فكان تنقلهم بين رُبوعها وإقامتهم فى بعض جهاتها زمنًا ليس بقليل. وتلك الزيارة لها مسار معروف بـ”رحلة العائلة المقدسة لمِصر”: يبدأ من “الفَرَما” فى “سيناء”، ثم “تل بسطا”، و”مسطرد”، و”بلبيس”، و”منية سمنود”، و”دقادوس”، و”مدينة سمنود”، و”البرلس”، و”سخا”، و”وادى النطرون”، و”المطرية”، و”عين شمس”، و”مِنطَقة الزيتون”، و”وسط البلد”، و”مِصر القديمة”، و”المعادي”، و”قرية أشنين النصارى”، و”قرية دير الجرنوس”، و”البهنسا”، و”سمالوط،” و”جبل الطِير” شرق “سمالوط”، و”الشيخ عبادة”، و”قرية بنى حسن”، و”الأشمونين”، و”ديروط”، و”ملوي”، و”تل العمارنة”، و”دير أبى حَنِّس”، و”ديروط الشريف”، و”قُسقام”، و”مِير”، و”جبل قُسقام” المعروف الآن بـ”دير المُحَرَّق” حيث مكثت “العائلة المقدسة” ستة أشهر وعشَرة أيام فى إحدى المغارات، ثم عادت بعد قرابة ثلاث سنوات قضَّتها فى “مِصر” إلى أرض “فِلَسطين”.
ورحلة “العائلة المقدسة”، وإن كانت هروبًا، فهى تقدم لنا أحد دروس الحياة فى معنى القوة : فالقوة ليست هى تلك قوة الإنسان الجسدية أو مكانته أو نفوذه، بل هى قوة تملكه لنفسه وضبطه لذاته ؛ لقد تخيل “هيرودس” أنه الأقوى فسعى لقتل “السيد المسيح” وهو طفل بعد أن عرَف من حكماء المشرق الذين أتَوا لزيارته بأنه قد وُلد ملك، وهو فى حقيقة الأمر كان ضعيفًا مهزومًا من ذاته وكبريائها فأحب العظمة والملك عما سواهما ففقد معالم إنسانيته ومعها أضاع قوتها! ويعبّر الكتاب عن ذٰلك بقوله: “مالك روحه خير ممن يأخذ مدينة.”؛ إن القوة الحقيقية هى قدرة الإنسان على التمالُك وضبط النفس والذات قبل كل أمر فهى الطريق إلى النجاح فى الحياة.
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسيّ.