تحدثنا في المقالة السابقة عن الإنسان الملتزم أنه موضع ثقة من حوله، وشخص يشعر من يعامله بالراحة والاطمئنان، وأنه أيضًا ملتزم في عمله يعمل بكل جِد متخطيًا الصعاب بعزيمة لا تعرف الفشل.
كذٰلك فالملتزم إنسان يُدرك التزامه نحو الآخرين؛ فلا يتوقف عن عمل الخير؛ لا للبحث عن مكسب أو كرامة، وإنما من أجل إدراكه أنه ملتزم نحو إنسانيته. تذكُر القصة أن في زمن بعيد تعطلت القطارات القادمة والذاهبة عند مدينة بني سويف، وكان المسئولون يستخدمون السيارات لنقل المسافرين إلي المَِحطات القريبة. وكان السبب هو وجود ثَقب في الجسر الذي تمر عليه قُضبان السكك الحديدية، وقد تطور هٰذا الثَّقب ليُصبح فجوة هائلة وصلت إلي عمق رهيب يؤدي حتمًا إلي سقوط القطار بمن فيه متي مر علي هٰذا الجسر. إلا أنه عند مرور أحد سائقي السيارات رأي الفجوة وأدرك أنه مع مرور أول قطار ستقع كارثةً لا محالة؛ فأسرع بالإبلاغ عن تلك الفجوة قبل قدوم القطار، وأُوقفت القطارات قبل الوصول إلي الجسر ما أدي إلي إنقاذ حياة آلاف من البشر. لقد شعر هٰذا السائق بمسئوليته والتزامه نحو إخوته في البشرية، فهُرِعت نفسه إليهم تحمل في أعماقها تجاههم حبًّا والتزامًا.
كذٰلك الملتزم حين يؤمن بأهمية ما يفعله، يكون إيجابيًّا ساعيًا في عمله دون أن يُطلب منه. قرأتُ عن فلاح بسيط كان يسكن في إحدي قري الهند المعزولة. وفي أحد الأيام، أصيبت زوجته إصابة خطيرة ما استوجب نقلها إلي المستشفي. وبسبب صعوبة الطريق وطوله بين المستشفي والقرية، لم تصل سيارة الإسعاف في الوقت المناسب وماتت الزوجة. فكَّر الفلاح البسيط في إيجاد حل لربط القرية بالمدينة لئلا تتكرر المأساة مع الآخرين. فطلب إلي الحكومة أن تشقّ نفقًا في الجبل يجعل المسافة قصيرة، ولٰكنّه لم يجد استجابة. فما كان من هٰذا الفلاح إلا أنه قرّر أن يبدأ في العمل بنفسه لكي يُنهي تلك المأساة التي يعيشها هو وأهل قريته! فأحضر فأسًا ومِعْوَلًا وبدأ يحفِر طريقًا صخريًّا بيديه. تعرض الفلاح لسخرية أهل القرية، بل إن البعض اتهمه بالجنون! إلا أنه استمر في عمله قرابة اثنين وعشرين عامًا، إذ بدأ في 1960 وانتهي في 1982م، يوميًا دون كلل أو ملل. وهو لا يملِك شيئًا سوي فأس ومِعْوَل، وإرادة آمنت بخير ما يعمله وأهميته، وعزيمة والتزامًا عميقين داخله دعمتا تلك الإرادة، حتي استطاع تحقيق المعجزة ونجح في شق طريق في الجبل طوله يصل إلي 110 أمتار، وعرضه 9 أمتار، وارتفاعه 7 أمتار!! إن ما فعله هٰذا الفلاح البسيط قد فتح طريقًا لأطفال القرية للذهاب إلي المدرسة، وسبيلًا للإسعاف والخدمات لكي تصل إلي القرية سريعًا في مسافة سبْعة كيلومترات فقط، بعد أن كانت سبعين كيلومترًا!! إن ما حقق هٰذه المعجزة كان إيمانًا، والتزامًا من إنسان بسيط غيَّر به مصير قرية كاملة؛ فماذا تكون نتيجة التزام كثيرين في أعمالهم ومواقعهم نحو الإنسانية؟! وهنا أتذكر إحدي المقولات: «يفشل الناس أحيانًا، لا بسبب نقص القدرات، ولٰكن بسبب نقص الالتزام.». فلا تضعُف ولا تخُر قواك، بل تَشدَّد والتزم!
وللحديث بقية.