تحدثنا في المقالة السابقة عن “العمق الروحيّ” سر سلام الإنسان في العالم ونضجه في أثناء سيره في طريق الحياة، إذ تكون له المعرفة الروحية العميقة التي يصاحبها سلوك إنسانيّ وأمانة نحو الآخرين. والعميق الروح أيضًا يعرِف هدف حياته فلا يستطيع أيّ بريق أن يُبعده عن الطريق الذي خطّه لنفسه فيكون الثبات سمة شخصيته.
وكما تكلمنا عن العمق في: الفكر، والاستماع، والمعاملات، والمشاعر؛ وسابقًا عن “العمق الروحيّ”، نتكلم عن عمق آخر يؤثر في حاضر الإنسان ومستقبله، واسمحوا لي أن أُطلق عليه: “عمق الاختيارات”. إن رحلة حياة الإنسان هي مجموعة من الخِيارات التي تبدأ مع إشراقة شمس الحياة بميلاده، إلى أن تغرب ليبدأ رحلة الأبدية. ومن الممكن ألا يكون الإنسان هو صاحب تلك الاختيارات في طفولته، ولٰكنه يتحمل مسؤوليتها منذ أن يخطو نحو الشباب حتى تنتهي به أيام العمر. وفي ظل تلك الخِيارات، يكمن سر سعادة الإنسان أو شقاؤه: ففي الحياة يحصُِد كل منا ما قرر أن يزرعه.
إن عُمق الإنسان في خِياراته وقراراته هو نتاج طبيعيّ من عمق فكره ومشاعره، فمن تدرب على التفكير بعيدًا عن السطحية والانفعالات يمكنه أن يتخذ قرارات صائبة بدرجة كبيرة. ومن أهم خطوات اتخاذ قرار صحيح أن يُعطِي الإنسان نفسه فرصة للتفكير. أيضًا نجد ذٰلك الإنسان المدقق في الاختيار يُدرِك نتائج خِياراته على مدى واسع، إذ يفكر ويدرُس المواقف بإيجابياتها وبسلبياتها والمشكلات بحلولها المتاحة، واضعًا في الاعتبار المميزات والعُيوب؛ لذٰلك، نجده لا يتسرع في عقد قراراته أو اتخاذ مواقفه. وكما قيل:
إِذَا كُنْتَ ذَا رَأْيٍ فَكُنْ ذَا تَدَبُّرٍ فِإِنَّ فَسَادَ الرَّأْيِ أَنْ تَتَعَجَّلَا
ومن جهة أخرى فإن المتعمق في الاختيار يُدرك تمامًا أهمية عامل الوقت وتأثيره في اختياراته وقراراته فلا نراه يتباطئ؛ إنه يُدرك اللحظة الحاسمة التي ينبغي له فيها أن يبدأ خَطواته.
أيضًا في الوقت الذي يقوم الإنسان العميق باتخاذ اختياراته وقراراته، يضع المستقبل الذي يرغب أن يحياه صوب عينيه، وما يلائم ذٰلك المستقبل من مواقف يتخذها، ولا يسمح لأيّ سعادة زائفة أو انتصار مؤقت أن يُحيده عن الطريق الذي رسمته آماله له بجِدية وهمة كبيرين، فلا تخدعه الأضواء الزائفة التي سريعًا ما تخبو؛ وهنا أتذكر كلمات مثلث الرحمات “البابا شنوده الثالث”: “الشخصية العميقة لها: عمق في التفكير والتدبير، عمق في الذكاء والفَهم، الشخص منهم له ذكاء شُموليّ يشمل كل شيء: إن بحث موضوعًا، يفكر فيه من جميع زواياه، ويعمل حسابًا لكل النتائج ورُدود الفعل، وإذا تكلم يتكلم بعمق …”.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ