تحدثنا في المقالتين السابقتين عن أهمية الاتزان والاعتدال في نظرة الإنسان تجاه الأحداث من حوله، إذ التركيز في جانب واحد فقط يؤدي إلى عدم الاتزان في قرارات الشخص ومن ثَم حياته؛ لذٰلك عليه أن يدرِّب ذاته على أن يرى معظم ألوان الحياة كي تقترب إلى الواقع والاعتدال في حكمها على الأمور؛ ومن الأمور التي تساعدنا في تحقيق ذٰلك مبدآن: أولهما الهدوء والتروي عند التفكير في مشكلة ما ووقت اتخاذ ما يتعلق بها من قرارات، وثانيهما بحث جميع جوانب الأمور المتعددة واستطلاعها جيدًا للوصول إلى قرار صحيح.
وبينما أخُط كلماتي هٰذه، تذكرت إحدى القصص التي شاهدتُها؛ تبدأ القصة بمعلم يقوم بشرح الدرس لطلابه، في سن التعليم الثانوي، ليدخل أحد الطلاب متأخرًا عن موعد بَدء الدراسة مسرعًا لاهثًا، حتى إنك لتظن أنه قد أتى من سفر بعيد! وسرعته لا تخلو من القلق والاضطراب، إذ رد فعل المعلم معه لن يكون لطيفًا. وبالفعل يستوقف المعلم الطالب اللاهث، وينظر إلى ساعته، ثم يرفع عصاه ليقوم بمعاقبة الفتى بضربه بعصاته على راحة يديه. ويتكرر الأمر يومًا بعد يوم، والطالب يأتي متأخرًا، والمعلم ينظر إلى ساعته ثم يعاقبه بالضرب على كفيه. وإلى هنا القصة عادية لا تعبر إلا عن عدم التزام طالب وعقابه على عدم مبالاته وإهماله ـ مع اختلافنا التام في أسلوب العقاب.
وفي أحد الأيام، بينما يمارس المعلم رياضة الجري في الصباح الباكر قبل التوجه إلى عمله، إذ يشاهد هٰذا الطالب وهو يقود عجلة يحمل عليها الجرائد والمجلات! يقرر المعلم أن يتتبعه ليكتشف أن طالبه المتهم بالإهمال وعدم الالتزام يقوم بتوزيع الجرائد على المنازل قبل ذَهابه إلى المدرسة؛ وحنيئذ أدرك المعلم خطأ حكمه ومدى قساوته على ذٰلك الفتى الذي بدأ تحمل مسؤولية الحياة في سن صغيرة، في حين أقرانه ما يزالون يتمتعون بحياة سهلة.
في ذٰلك الصباح، حضر الطالب كعادته متأخرًا، ومد كفيه للمعلم للعقاب، فإذا بالمعلم يحتضنه ـ في اعتذار بلا كلمات ـ لحكم من زاوية واحدة فقط. وقد يتساءل بعضنا: أنتوقف عن العقاب، عن وضع القواعد؟! أُجيب: كل ما نحتاجه أن نُدرك ونفهم دوافع الأحداث وخلفيات المواقف والسلوكيات، وأن ندخل قليلاً إلى العمق بدلاً من التوقف عند سطحية الأمور؛ وحينئذ نكون أكثر إيجابية وتأثيرًا في حياة البشر والحياة بأسرها. يقول الكاتب الشاعر الأديب “جُبران خليل جُبران”: “أما أنا، فقد تعلمتُ أن لا أعزل صديقي قبل الاستقصاء والاستطلاع!!”
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ