تحدثنا فى المقالة السابقة عن رجل تعرض فى رحلة الحياة لكثير من النقد لإعاقة مسيرته، إلا أن جميع تلك العواصف لم تنَل منه شيئًا، فعاش رجلاً لا يهتز، ومسؤولاً لا ينحنى فى الحياة: إنه د. «بطرس غالى». وفى ظل الدراسة الأكاديمية والثقافة، بدأ العمل السياسى لتتعدد المراحل التى مرت به، وتتكون المسؤوليات الملقاة على عاتقه على الصعيدين المِصرى والدُّولى.
ومع كل تلك المسؤوليات، كانت «مِصر» فى فكره وقلبه، فعندما سُئل عن أهم إنجازات حياته، أجاب: «إنى استمريت أعمل من أجل خدمة بلادى: هذا إنجاز فى ذاته». لقد كانت «مِصر» دائمًا وطنًا يعيش فى قلبه وفكره، فيقول: «فى الواقع، ولائى الأول لـ(مِصر) وكيف أستطيع أن أخدُم (مِصر) سواء داخليًّا أو خارجيًّا. لأن هناك هجومًا فى العالم الخارجى على «مِصر»، على البلاد العربية، على البلاد الإسلامية، وإننى أستطيع على مستواى أن أواجه هذا الهجوم، وأن أحتوى هذا الهجوم.».
لذلك اهتم بقضايا الوطن، وكانت له رؤية بعيدة المدى إزاء المشكلات التى يمكن أن تتعرض لها «مِصر» مستقبلاً، ولم يقِف مكتوف اليدين حيالها. وكانت إحدى تلك المشكلات، التى تمثل أهمية قصوى، هى «نهر النيل»، فقد قام بمحاولات لإقناع الرأى العام المِصرى والأفريقى بإنشاء منظمة تتولى الإشراف على «نهر النيل»، ووصلت محاولاته المستمرة على مدى عشرين عاماً، إلى ترتيب زيارة لوزراء الرى إلى «آسيا»، للاطلاع على خبرة الدُول المشتركة فى «نهر مِيكونج» الدُّولى، إذ قامت بإنشاء منظمة تمثلها تتولى الإشراف على توزيع المياه وعلى الملاحة مع ربط شبكات الكهرباء. وقام أيضًا بعمل رابطة الأحزاب الأفريقية. إلا أن محاولاته جميعها قد باءت بالفشل.
وقد اهتم د. «غالى» بالعالم الثالث ومشكلاته فى جُهود لمساعدة دُوله، هادفاً إلى مساعدة «مِصر» فيقول: «… لو ساعدت دولة مجاورة لـ(مصر) ووضعها يتحسن، وقتها دا هيساعد (مصر) بطريق غير مباشر. أهم حاجة عندى هى (مصر): كيف أستطيع أن أساعد (مصر) بطريق مباشر أو بطريق غير مباشر.».
وفى رحلته إلى «القدس» مع الرئيس «السادات» كان تحرير «سيناء» هدفًا له، واحتمل فى المفاوضات، التى استمرت قرابة شهرين فى «واشنطن»، كثيرًا من المواقف من الجانب الإسرائيلى فيقول: «… المفاوضات التى دارت بينى وبين الجانب الإسرائيلى: كان هناك حالات كثيرة الواحد مضطر أن يقبل (المواقف) التى أعتبرها إهانات ولكنى أقبلها على شان خاطر (مصر)، أنا فاكر كنا فى مفاوضات، وجيت فى وقت من الأوقات قلت: ها أمشى. الله يرحمه (عبدالله العريان) حط إيده على رجلى، وقال: ما تنساش إن الأرض بتاعتنا محتلة! خليك. وقعدت وقبلت…»، كان يشعر بـ«مِصر» فى كل أمر، حتى الزُّهور التى يحب وضعها فى حجرة مكتبه ومنزله: تُذكِّره بالحُقول المِصرية!
كان د. «بطرس غالى» يُدرِك أهمية أن يكون للإنسان دور وتأثير فى الحياة، فخط لنفسه دورًا كمعلم ليساهم فى صنع الجيل الجديد، آنذاك، الذى سيحكم «مِصر». واستمر فى العطاء، وهو يقدِّم من خبراته، ويُعطى الجميع مشورته، ويساعد كل من تعامل معه فى غرس القيم الجليلة من عمل وعطاء بأمانة.
ودائمًا ما قدم د. «بطرس غالى» توصياته للشباب بإتقان اللغات ليتمكنوا من الانطلاق والانفتاح على العالم الخارجى ببساطة ويسر، أما هو فقد كان يجيد العربية والفرنسية والإنجليزية، وقد صرح ذات مرة بأنه كان يريد أن يتعلم لغة رابعة: «أنا نادم أنى لم أُتقن لغة رابعة… كنت أحب أن أتعلم الإسبانية». ويُعد الانفتاح على العالم الخارجى أحد المبادئ التى نادى بها، فقد كان يرى أن أهميته تكمن فى احتياج الدُّول إلى العالم الخارجى، ثم الاستفادة من العولمة وأيضًا احتواء أضرارها فقال: «الانفتاح على العالم الخارجى، لأن باكِر بسبب العولمة المشاكل الداخلية سوف تعالَج على مستوى دولى، وبالتالى لو ما انفتحناش على العالم الخارجى فمعالجة المشاكل الداخلية ستتم دون إرادة الدولة»، إلى جانب أن «مِصر» بصفة خاصة تحتاج إلى العالم الخارجى فى عدد من المجالات مثل السياحة والاستثمارات الأجنبية. وقد احتوت أيضًا نصائحه للشباب على الاهتمام بالعمل الجاد الدؤوب، فهو لا يؤمن بأنه يوجد ما يُسمى بالحظ، إنما اعتقاده أن الحظ الذى ينتظره البشر يأتى نتيجة العمل الجاد، وأن على الإنسان أن يعمل عشْر ساعات يوميًّا، وحينئذ سيصل إلى ما يتمنى. ولقد كان هو نفسه مثالاً للعمل الدائم المستمر، فكان يعمل ساعات طوال يوميًّا فى القراءة والكتابة والعمل.
لذلك استحق د. «بطرس غالى» أن يكرَّم بجوائز وأوسمة ودرجات علمية من ٢٤ بلدًا.
إنه ذلك الرجل الذى قال عن الموت: «يجب أن أقبل الموت… المهم أن أثناء حياتك أنت عملت الواجب… بمعنى إنه لو كنت مواطنا لو كنت مسؤولا يبقى اهتميت فعلا بالدولة التى تنتمى إليها وخدمتها بطريقة صريحة… الواجب… الواجب لأى دكتور يعالج الأمراض بطريقة أمينة».
رحِم الله «ابن مِصر البار»، الذى عمِل طوال حياته باذلاً كل جَهده لأجل رفعتها، حاملاً دعوى السلام فى العالم، فأمسى بحق سفيرًا للسلام، و… وعن «مصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسى