بدأنا فى المقالة السابقة مرحلة جديدة من تاريخ الشعب المِصرى بعد أن أصبحت مِصر ولاية رومانية، فقد كانت دائمًا البلاد التى تتوق، وتحلُم كل القوى العظمى بأن تسيطر عليها، لِما لها من تميز وعظمة. وقد فطِنت روما لأهمية مِصر فتدخلت فى شؤونها وإدارتها حتى حكمها قياصرة الدولة الرومانية. وقد وضعها «أُغسطس قيصر» تحت التبعية المباشرة للإمبراطور، وسَنَّ القوانين التى تحفظ له سيطرته عليها. وقد ذكرنا أن هروب العائلة المقدسة إلى مِصر يُعد أهم الأحداث التى وقعت فى مِصر إبّان حكم «أُغسطس قيصر».
طيباريوس قيصر الأول (14م – 37م):
تولى «طيباريوس قيصر الأول» حكم شؤون روما وإدارتها بعد موت «أُغسطس قيصر» وذٰلك عام 14م. وقد بدأ بإظهار تواضعه، معلنًا عدم استحقاقه تولى حكم البلاد، إلى أن استولى على العرش، ثم بدأت شخصيته الحقيقية فى الظهور. فقد ظهر عنفه وكبرياؤه حتى كرهه الشعب، وتمنَّوا التخلص منه، إلى درجة أنه خاف من العيش فى القصر الملكى، واعتكف فى إحدى الجزر القريبة من روما فى حياة غش وظلم وسفك للدماء، فحوَّل هٰذه الجزيرة إلى مقبرة. وكان إن أراد التخلص من أى شخص سأله الحضور إلى هٰذه الجزيرة، وهناك يأمر بقتله وإغراقه. وقد ظل على هٰذه الحياة إلى أن قام عليه أحد الأمراء وقتله، وكان ذٰلك عام 37م. وقد بنى «هيرودس أنتيباس» مدينة «طبرية» على بحر الجليل تكريمًا وتخليدًا له.
ومع أن «طيباريوس قيصر الأول» قد ذُكر كرمز للظلم، إلا أنه كان سياسيًا ناجحًا حتى إن عصره كان عصر سلام. بالإضافة إلى أنه كان يضع مؤلفات باليونانية واللاتينية، وذٰلك لمحبته الشديدة للثقافة والعلوم. ومن الحوادث المهمة فى فترة حكمه أحداث صلب السيد المسيح وقيامته.
أ- أميليوس أولوس:
وقد ولَّى شخصًا يُدعى «أميليوس أولوس» حُكم مِصر. وقد أراد «أميليوس» أن يَزيد من جمع الأموال التى تُرسَل إلى روما، فعندما سأل القيصر أجابه: أمّا بعد، فإنى لا أشتهى من الراعى إلا تسمين ما يرعاه، ولا أَرضَى منه أن يذبحه، فتأمَّلْ. فتوقف عن طلب مال فوق ما أقره «أغسطس قيصر».
ب- آليوس سيان:
تولى حكم مِصر بعد «أميليوس»، إلا أنه كان متكبرًا وشريرًا وظالمًا للرعية، فقد أشار على الملك «طيباريوس قيصر» بقتل جميع أفراد عائلة «أُغسطس قيصر». وقد استجاب له، فقام بقتل كل من استطاع أن يفتك به. وقد استمر «أميليوس» يُرغِّب القيصر فى ارتكاب المعاصى وسفك الدماء، إلى أن بدأ «طيباريوس قيصر» يشعُر بريبة منه فانقلب عليه، وأمر بقتله وإلقاء جثته فى ميدان عام. وبمقتله عم الفرح جميع أفراد الشعب، ومثَّلوا بجثته انتقامًا من الظلم والعنف اللذين مارسهما ضدهم.
كاليجولا قيصر (37م – 41م):
تولى «كاليجولا قيصر» حكم روما بعد «طيباريوس قيصر» عام 37م. وقد عُرف فى بداية حكمه بسيرته الحسنة وحزمه بالإضافة إلى حكمته. وقد لبِث على هٰذه الحال حتى مرِض مرضًا شديدًا أشرف به على الموت. إلا أنه بعد نجاته من الموت وبسبب ما عاناه فى مرضه تغيرت طباعه إلى النقيض وملأت الشرور قلبه وأعماله! مما جمع حوله أهل الفساد، وقد أصبح شخصًا دمويًا حتى إن من كان يخالفه من أعضاء المجلس الرومانى فى رأى أو حتى يُظهِر استياءه أو عدم استحسانه مما يفعل، كان الموت نصيبه. فقد كان أشد الحكام ظلمًا وغدرًا وعدوانًا، وقد أمر اليهود بنصب تمثال له فى أورشليم، وحينما رفضوا اضطهدهم بشدة كما اضطهد أيضًا المسيحيين حتى الموت.
وقد كان مبَّذرًا جدًا إلى درجة السفه، فأنفق جميع أموال الدولة التى تركها «طيباريوس قيصر». وامتد سفه المال إلى سفه التصرفات، فجعل فرسه الذى أحبه يُعبد من جملة الآلهة، وأقام له كهنة خصوصيين. وقد كانت نهايته الموت على يد أحد أمراء فى قصره عام 41 م.
وقد أقام واليًا ظالمًا على شاكلته فى مِصر، فظلم الشعب، حتى إن فى أيامه امتلأت البلاد ظلمًا، واشتدت بها الفتن- وخاصة فى مدينة الإسكندريةـ إلى أن قُتل فاستقرت الأمور.
كلوديوس الأول (41م -54م):
تولى «كلوديوس الأول» الحكم بعد مقتل سلفه. فقد وجده العساكر والجند فى القصر فاقدًا الوعى، فحملوه، ولقبوه بإمبراطور الرومانيين، وبعد أن أفاق بايعه الحرس الملوكى. ومع أن «كلوديوس قيصر» كان بسيطًا مخلصًا لا يؤذى أحدًا، إلا أنه لم يكُن حكيمًا، بل أحمق غافلاً عما يدور حوله.
وعلى حمقه هٰذا، إلا أنه كان كاتبًا، فألَّف كتابًا عن تاريخ روما وقرطاچنة. وبسبب حماقته كان عاجزًا عن حكم البلاد وتدبير أمورها؛ فسلم إدارتها إلى وزيرين وثِق بهما لٰكنهما كانا يدفعانه إلى ارتكاب المعاصى وسفك الدماء.
وقد قتل زوجته بعد أن عرف خُطتها لقتله، ثم تزوج بامرأة أخرى كانت أشد خيانة؛ تآمرت مع أحد الأطباء على قتله بالسُّم، فنجحت ومات عام 54م، وكانت مدة حكمه ممتلئة بالشدائد. فعلى سبيل المثال، قيام فتنة شديدة فى الإسكندرية بين أهلها واليهود، واقتتل الفريقان قتالًا عنيفًا، إلا أنه تغلب على هٰذه الفتنة. وقد ازداد فى أيامه الاهتمام بالعلوم والمعارف، وأُنشئت دار للعلوم بالإسكندرية. وأيضًا فى زمانه كُتبت الثلاث بشائر للإنجيل المقدس، وهى: بشارة مرقس، وبشارة متى، وبشارة لوقا.
نيرون قيصر (54م – 68م):
بعد مقتل «كلوديوس قيصر»، قامت زوجته بمحاولات لمنع وصول ابن زوجها إلى الحكم بعد موت أبيه، حتى تُولى ابنها «نيرون» حكم البلاد، وبالفعل نجحت فى جعله قيصرًا على الرومان؛ كان عمره آنذاك خمسة عشر عامًا. ولصغر سنه حكمت أمه بالنيابة عنه.
وقد شهِد له الجميع بالذكاء والعبقرية، على سنه الصغيرة. وكان له معلمان من أفضل المعلمين هما «بوغوس» و«سنافس». إلا أن أموره تبدلت إلى النقيض، وأصبح طاغية، وصب كل غضبه على المسيحيين، واضطهدهم أبشع اضطهاد، حتى إنه قتل عددًا كبيرًا منهم بوسائل وحشية فى كل الولايات التابعة لروما.وفى فترة ملكه، ذهب القديس مرقس الرسول إلى الإسكندرية ومِصر وبَرقة وبلاد العرب وبشر بالمسيحية، فآمن على يديه الكثيرون، ودخلت المسيحية إلى مِصر. وقد اتخذ القديس مارمرقس من الإسكندرية مقرًا له، إلا أنه عُذب وناله الكثير من الشدائد. ومع انتشار المسيحية فى مصر، ساء ذٰلك كهنةَ المعبودات المصرية، فقاموا على القديس مرقس، وسعَوا فى تعذيبه، وقتلوه، كما عذبوا كثيرًا من المسيحيين، وقتلوهم. وكذٰلك اضطهد «نيرون قيصر» اليهود، وقتل رئيس كهنتهم، ثم بعد فترة قام عليهم مرة أخرى، وأمر بقتلهم وخرَّب أورشليم.
ويبدو أن القتل كان جُزءًا من شخصية «نيرون قيصر»، فقد قتل أخاه من أبيه بأن دس له السُّم فى كأس الشراب. ثم حاول قتل أمه بإغراقها إلا أنها نجت، وعادت إلى قصرها. وعندما علم بذٰلك أرسل لها من قتلها. وأيضًا قتل زوجته الفاضلة حتى يتخلص منها لتعلقه بامرأة أخرى. إلا أنه قتلها هى أيضًا فيما بعد، لغضبه منها.
وقد وقع فى أيامه حريق هائل دمر روما وأهلك الكثيرين من شعبها، وقد اتهمه شعب روما بحرقها إلا أنه أشاع أن المسيحيين هم من قاموا بإحراق روما، وعذبهم أشد العذابات فقتل منهم الكثيرين، ومنهم القديسان بطرس وبولس الرسولان.
ثم قام عليه الشعب إلا أنه أخمد نار الفتنة وقتل، وعذب من قاموا بها. ولشدة حبه لذاته، أمر أن تُصنع له التماثيل والصور، وتوضع فى الميادين العامة وعلى النقود. وعندما ازدادت شروره ومظالمه صممت الرعية على قتله، فلما شعَر بذٰلك هرب إلى أحد قصوره وقتل نفسه هناك! وكان ذٰلك عام 68 م.
وفى أيام حكمه، ولَّى على مِصر الأمير «بلبيلوس» الذى اهتم بإدارة مصر على أفضل وجه، فأصلح أرضها، واهتم بمياه النيل لزيادة خصوبة الأرض، وعمت الراحة ربوع مصر. وقد طلب نيرون أن يعرف منبعَ النيل، فأرسل من روما بَعثة لاستكشاف منابع النيل… و… والحديث عن مِصر لا ينتهى…!