تحدثنا فى المقالة السابقة عن العَلاقة الإنسانية والمحبة المتبادلة التى جمعت المتنيح «البابا شنوده الثالث» وأ. د. «يحيى الجمل»، وعن محبة الإنسان «يحيى الجمل» للجميع الرافضة كل عمل للتعصب والإرهاب؛ ونستكمل اليوم الحديث عن بعض سمات شخصيته من خلال رحلة فى كتابه «قصة حياة عادية».
ذهن متفتح
كانت إحدى سمات شخصية د. «يحيى الجمل» هى تفتح الذهن وتوقده، ولا عجب فقد كانت تلك إحدى صفاته التى تمتع بها منذ الصغر. فمنذ أن انتقل مع أخيه من قريته فى «المنوفية» إلى مدينة «طنطا» لاستكمال تعليمه فى كتّاب «الشيخ عبدالحميد قشطة»، ظهرت قدراته على سرعة الحفظ وحُسن الإلقاء. وبدأ فى ذٰلك الوقت الخَطو نحو عالم الأدب والقراءة اللذين كان لهما أشد الأثر فى حياته التالية، ذلك من خلال أخيه وأبناء عُمومته وتردده على دار الكتب بالمدينة؛ فأخذ يقرأ كل ما أمكنه أن يلقاه من قِصص مترجمة وغيرها، يتذكر منها ذلك الكتاب الذى كان له أثره الشديد فى أن يحب التاريخ ويرغب فى دراسة القانون: كان عُنوان الكتاب «المآسى التاريخية الكبرى» لمؤلفه أ. «حسن الشريف» الذى يحكى عن أحداث «الثورة الفرنسية» بأسواب روائى.
باتت القراءة جزءًا لا يتجزأ من حياته؛ فكان لها عظيم الأثر فى شخصيته واتساع فكره ومرونته، فيحكى عن نفسه: «وأُغرم الفتى بالقراءة وأُولِع بها ولعًا شديدًا، وكان ذلك والصبى لم يبلغ العاشرة من عمره بعد…». وقد قاده ولعه بالقراءة إلى اصطحاب إحدى الروايات إلى الكتّاب وكانت النتيجة أن عوقب بالضرب! فكان يومًا فارقًا فى حياته واتجاهاته بحسب ما عبّر: «وكان ذٰلك اليوم فراقًا بينه وبين كتّاب «الشيخ عبدالحميد قشطة»: ذٰلك أنه أعلن عِصيانًا لا عُدول عنه… أعلن أنه لن يكمل تعليمه إلا إذا أدخله أهله المدارس الابتدائية.»!
التحق «يحيى الجمل» بـ«مدرسة» ولىّ العهد الابتدائية الأهلية بالصف الأول مع أن العام الدراسى كان قد أوشك على انتصافه، بعد أن اجتاز بتفوق كبير امتحانين فى مادتى «الإملاء» و«الحساب»؛ لينتهى العام الدراسى وقد حصل على المركز الأول بين أقرانه فى ذٰلك العام! ثم فى العام التالى الذى أعطاه امتياز الحصول على «مجانية التفوق» التى احتفظ بها إلى أن أتم تعليمه الجامعى!! وهكذا مضت رحلته فى الدراسة وطلب العلم، ولٰكنها لم تؤثر فى عادة القراءة التى اكتسبها منذ الصغر والتى استمرت صديقًا ملازمًا له طوال حياته حسبما صرح: «ويبدو أن تلك العادة ـ عادة القراءة ـ قد تكونت لديه منذ ذٰلك الوقت المبكر ومازالت تلازمه إلى يومنا هذا».
اكتسب «يحى الجمل» إدراكًا واسعًا إذ قرر منذ الصغر ألا ينغلق على كاتب بعينه فقرأ «للمنفلوطى»، و«المازنى»، و«الرافعى»، و«العقاد»، و«طه حسين»، وغيرهم؛ وكان أخوه يريده أن يحب «الرافعى»، فى حين كان ابن عمه يرى العمق فى «العقاد»: «وكان فتانا يسمع إلى أخيه ويسمع إلى ابن عمه، ولا يريد أن يغلق ذهنه على أحد، أو دون أحد من الكُتاب الكبار جميعًا». انتقل الصبى «يحيى الجمل» إلى «القاهرة» فى الصف الرابع الابتدائى، مستمرة القراءة جزءًا لا يتجزأ من حياته بل أصبحت «دار الكتب» هى مكانه المألوف كل جمعة! وأتيحت له فرصة رائعة لتعرُّف عدد من القيادات الفكرية والاقتراب منها فى جلسات صالون الأديب الكبير «عباس محمود العقاد»، وهو فى مقتبل عمره.
قلب نابض بالمحبة
عرف قلبه المحبة والحنان فى طفولته مع جَدته، ثم مع جَده وجَدته لأبيه بعد انتقاله للحياة مع أسرته. وقد رزقه الله بأب حنون عطوف: «أمّا أبوه، فكان الحنان مجسمًّا فى رجل!! كان رجلًا طيبًا بكل ما تعنيه هذه الكلمة عند المِصرى العادى… وكان حنونًا عطوفًا لا يذكر أنه زجره أو ضربه فى طفولته قط… وكان متدينًا فى غير تطرف، محبًّا للحياة فى غير تكالب، يَسُرّه من دنياه رؤية أولاده ناجحين…». وهكذا تعلم الفتى «يحيى الجمل» المحبة والحنان والاعتدال من أسرة فاضت عليه بكثير من تلك المشاعر، فأصبح هو أيضًا نبعًا للمحبة والود فى حياة كل من يلقاه، فيقول: «وقد ورث الفتى عن أبيه ذلك الحنان المُفْرِط، ولم يَضِق الفتى بذلك الميراث على الرغم أن أكثر ما لاقاه فى حياته من عناء وأكثر ما ظهر عليه من ضعف كان يرجِع إلى حنانه ذٰلك الذى لم يستطِع أن يتحكم فيه أو أن يُخفيه عندما ينبغى له…»!!
لذلك، لا عجب حين نراه شديد الاهتمام بأصدقائه ومعارفه وأحبائه، دائم السؤال عنهم، يسعد بوجوده بينهم؛ ويعبّر عن ذٰلك بأنه متعة من متع الحياة لديه!! فيقول: «ورؤية الأحباب، يا صاحبى، والحديث معهم والسماع إليهم ـ على الرغم من ندرة الأحبة ـ هى أيضاً متعة، أى متعة!! إنك تحس بأنك موصول بغيرك. إنك تحس بأنك فى هذا الكَون لست غريبًا، وأن هناك قلبًا كبيرًا يحتويك وتحتويه. هل هذا أمر هّين؟ أظن لا».
وبهذا القلب الذى تعلم النبض بالحب تعلم التعاطف نحو الآخرين والشعور بهم، وكانت تتملكه مشاعر الحزن عند تعرض أحدهم للظلم، وقد بدأ ذلك منذ صباه: «أدرك الفتى معنى الظلم، وأحس بالحزن الشديد، وكان عنده استعداد لإدراك معنى الظلم والتعاطف مع المظلومين…». وقد انعكس ذٰلك على رؤيته للشعر، فقال: «وكان فتانا ـ على الرغم من صغر سنه ـ وبالرغم أنه حفِظ كثيرًا من شعر «شوقى»، وحفِظ أغلب «مجنون ليلى»، وأغلب «كليوباترا» ـ كان فتانا يريد أن يبدو وكأنه من أنصار «حافظ إبراهيم» وليس من شيعة «شوقى». كان إحساسه منذ البداية قويًّا فى التعاطف مع المظلومين، أو من يحس أنهم من المظلومين».
إصرار وعزيمة
اتسمت حياة د. يحيى الجمل بالإصرار والعزيمة، فمع أنه لم يحصل على تقدير مناسب فى تخرجه يسمح له بالانضمام إلى هيئة التدريس ـ ذٰلك الحُلم الذى كان يداعب خياله ـ فإنه لم يتوقف عن تحقيق حُلمه وأصر على إدراكه على أرض الواقع فكان له؛ وأعتقد أن ذلك الإصرار قد ورثه من والدته، فإن كان العطف والمودة قد انطبعا فى حياته من أبيه، فإن الذكاء والعزيمة والإصرار هى سمات والدته التى اتسمت بذكاء متقد، فقال: «وكانت أمه حادة الذكاء قوية الشخصية… وكانت الأم هى مصدر القوة والحسم والإصرار…». وبتلك العزيمة والإصرار حصل على درجتَى «الماﭽستير» و«الدكتوراه» ليصبح من أعضاء هيئة التدريس بـ«كلية الحقوق جامعة القاهرة»…. و… وفى «مصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسىّ