فى أول أيام عام ٢٠١٧م، أطلب إلى الله أن يبارك «مِصر» وشعبها، ضارعًا إليه أن يحفظ أبناءها جميعًا من كل شر، وأن تمتلئ رُوبعها بالخير والسلام للجميع.
تحدثنا فى المقالة السابقة عن بعض سمات شخصية أ. د. «يحيى الجمل»، واليوم نستكمل الحديث. ذكرنا أن حياة د. «يحيى الجمل» اتسمت بالإصرار والعزيمة، الأمر الذى دفعه إلى الحصول على درجتَى «الماچيستير» و«الدكتوراه»، محققًا حُلمه أن يصبح من أعضاء هيئة التدريس بـ«كلية الحُقوق جامعة القاهرة» المكان الذى أحب الوُجود بين مدرجاته ووسْط طلبته، يلقنهم فُنون العلم ومهاراته فى إنسانية عميقة، وقد كتب يقول: «… وأنه لا شيء يأتى من فراغ، وأن الرغبة والجُهد والمثابرة كفيلة بأن تحقق الآمال الكبار».
رحلة السياسة
بدأ «يحيى الجمل» الاهتمام بالسياسة، وهو ما يزال طالبًا فى المرحلة الثانوية وامتدت طوال حياته؛ ففى القاهرة تغير نمط حياته ليقترب إلى كثير من الأحداث فقد ذكر: «وبدأت أجواء الاهتمامات السياسية تقترب منه ويقترب منها. بدأت حياته تتشكل من جديد على نحو مختلف عما كانت عليه. ساعد فى ذلك نضجه من ناحية العمر، ودخوله المدرسة الثانوية، وانتقاله إلى «القاهرة» تلك المدينة الكبيرة الساحرة الصاخبة فى آن واحد.». ومن مدرسته الثانوية التى كانت تتمتع بشهرة خاصة فى مجال «الاضطرابات السياسية» وفى مجال الحياة الأدبية والثقافية، خرج تلاميذها مع تلاميذ المدارس الأخرى هاتفين بسقوط «وعد بلفور»، فى تلك الأثناء، تعرف إلى زميل له يدعى «أحمد مجاهد» كان يخطب فى مظاهرة من المظاهرات الرافضة لذلك الوعد، وقد أُعجب به جدًّا إذ كان يرى فيه صورة الزعيم المِصريّ «مصطفى كامل»؛ وقد كان «أحمد مجاهد» أحد أعضاء «الحزب الوطنيّ» الذى أسسه ذلك الزعيم، وقد اصطحب «يحيى الجمل» إلى نادى الحزب ليصبح واحدًا من شبابه. وبالرغم من اقترابه من الحياة السياسية فإن الأدب كان يغلب عليه: «وعلى الرغم أن فتانا قد تفتح للحياة السياسية، فإن اتجاهاته الأدبية ورغبته فى تثقيف نفسه كانت غلابة على كل شيء، وعُرف بين لِدانه فى المدرسة بحبه للقراءة الأدبية وشغفه بها أكثر مما عُرف به باعتباره من هواة السياسة».
وفى اللجنة الأدبية بالمدرسة التى رأسها، كانت السياسة تُطل عليه إذ يقول: «وكانت اللجنة الأدبية هى المكان الذى التقى فيه زعماء الطلبة السياسيِّين الذين يقودون المظاهرات… ولم يتخلف عن أغلب المظاهرات، بل إنه قاد بعضها أحيانًا. ولكنه كان ينفر نُفورًا طبيعيًا من أيّ عمل تخريبيّ يقوم به بعض الشباب…». وقد قُبض عليه مع طلبة آخرين فى عهد حكومة «إسماعيل صدقي» وكانت تهمته الاشتراك فى المظاهرات، ووُجه إليه تهمة الشروع فى حرق المدرسة، ثم أفرج عنه بعدئذ عدة أيام. وقد أدى هذا إلى فزع الأب وقلق الأم، لكنّ الأزمة انتهت لتصبح فى عداد الذكريات، يحوطها بعض مشاعر الفخر بعد سقوط وَزارة «إسماعيل صدقي». وانقضت أيام الدراسة الثانوية ليلتحق بكلية الحقوق حيث كانت الجامعة تموج بالعمل السياسيّ بين طلابها. ومع بداية الخمسينيات، كانت الحياة فى «مِصر» توحى بأن هناك إعصارًا شديدًا سوف يهب، إذ أصبح الحديث عن فساد الملك، وانطلق الهُتاف من الجامعة يطالب بسقوطه، فيصف: «… وهتف الطلبة وسط الحرم الجامعيّ بسقوطه، بل إن الأمر وصل إلى حد أن بعض الطلبة دخلوا حجرة رئيس الجامعة، ونزعوا صورة من الحائط وداسوها بالأقدام هاتفين برحيله…»! وفى العام الثالث من دراسته الجامعية، ترشح لمجلس اتحاد الطلبة بالجامعة وفاز؛ وكان لانتصاره معنى سياسيّ لا يمكن التغاضى عنه فى تلك الآونة من تاريخ «مِصر».
كانت ذلك الزمان يعج بالأحداث السياسية: منها مفاوضات وَزارة «الوفد» مع البريطانيِّين من أجل الاستقلال وتعديل «معاهدة ١٩٣٦م»، ثم طلب جلاء القوات البريطانية، ثم إعلان «النحاس باشا» فى «مجلس النواب» إلغاء «مِصر» من جانبها لـ«معاهدة ١٩٣٦م»، ثم تكوين كتائب الفدائيِّين وتصاعد الحركة الوطنية يومًا بعد يوم. تم تأليف «كتيبة مُحمد فريد» من شباب «الحزب الوطنيّ»، وكان يقوم بتدريبهم العميد «رشاد مهني» الذى أصبح وصيًّا على عرش «مِصر» فى أثناء اعتلاء الطفل «أحمد فؤاد الثاني» العرش؛ وكان «يحيى الجمل» آنذاك قد انتقل من السنة الثالثة إلى الرابعة. كانت القضية الوطنية تشغل الجميع، وكانت «كلية الحقوق» من أكثر الكليات تأثرًا وغليانًا، حتى إن الحكومة أوقفت الدراسة فى الجامعات وبعض المدارس!! وكان «يحيى الجمل» فى بؤرة الأحداث آنذاك، تشغله أمور بلاده وقضاياها؛ فقد كان يسود التوتر بين الحكومة المِصرية والحكومة البريطانية، وتتوالى الأحداث الدامية ومنها: استيلاء القوات البريطانية على جمرك «بورسعيد»، وتهديم منازل قرية «كفر عبده» القريبة من «السويس» بأكملها، ووضع مِنطَقة «قناة السويس» فى القيادة العسكرية البريطانية، ورَدّ الحكومة بإرجاع السفير المِصريّ من «لندن». وهكذا اجتاحت الثورات «مِصر»، ونشِبت المعارك بين قوات الاحتلال والمقاومة الشعبية ومنها موقعة «التل الكبير» و«أحداث الإسماعيلية» العنيفة ثم «حريق القاهرة» وإعلان الأحكام العرفية. استمرت الدراسة حتى جاءت رياح التغيير فى الثالث والعشرين من يوليو عام ١٩٥٢م، فكما يذكر: «أعلنت النتيجة يوم ٢٣ يوليو، وتُوفى عميد الكلية ٢٣ يوليو، وتحرك الجيش ليغير وجه الحياة فى «مِصر» يوم ٢٣ يوليو… وبدأت «مِصر» كلها فصلًا جديدًا خطيرًا من تاريخها الطويل.». إن تلك الآونة من حياة أ. د «يحيى الجمل» كوَّنت مشاعره نحو «مِصر» وإحساسه المرهف بشعبها، كما أنها رسمت فى أعماقه الملامح السياسية التى أخذت فى رسم دوره العميق الذى قام به طوال حياته، ليقدمه دورًا عظيمًا بارزًا فى تاريخ «مِصر» والبلاد العربية، مشاركًا فى وضع دساتير عدد منها.
إن الحديث عن شخصية أ. د. «يحيى الجمل» لا ينتهى، إذ هو رحلة حياة أثرَت كثيرين فى بساطتها وعمقها، التى شهِد لها كل من دخل فى تعامل معه. لقد كان عضوًا فى مجلس أمناء «بيت العائلة المِصرية» ومقرر لجنته القانونية. وقد رأينا فيه تواضعًا وتشجيعًا للجميع. وأذكر أنه طالما ذكر لى أنه يتابع مقالات «مِصر الحلوة»، ويتعلم منها، وطلبها كى يكتب لها مقدمة عند نشرها. وأيضًا من أعماله التى لا يعلمها أحد أنه عندما أُوقف د. «القمص مكارى عبد الله» أستاذ الرياضيات بـ«كلية العلوم جامعة القاهرة» عن التدريس إبان أحداث عام ١٩٨١م، بسبب سيامته كاهنًا ـ على الرغم من قيامه بالتدريس قبل تلك الأحداث وهو كاهن، تولى د. «يحيى الجمل» رئاسة الهيئة المؤلَّفة للدفاع عنه، حتى عاد للتدريس.
ويسعدنى أن أختِم بكلمات أ. د. «جابر نصار» رئيس جامعة القاهرة وأحد تلاميذ أ. د. «يحيى الجمل»، التى تقدم لنا بعضًا من الجانب الإنسانيّ فى حياة إحدى علامات «مِصر» البارزة: «… عرفتُه إنسانًا عطوفًا كريمًا سهلًا بسيطًا. كان عالِمًا واسع العلم والمعرفة متعدد المواهب؛ فقد كان ـ رحِمه الله ـ أستاذًا قديرًا، وكاتبًا مرموقًا يتلقف القراء ما يكتُب بلغة بسيطة سهلة الفهم. كان مفكرًا صاحب رأى ورؤية وطنية وقومية، لم يفرط فى مبادئه أبدًا. كان محاميًا فذًّا عرَفَته ساحات المحاكم مدافعًا عن قضاياه ببراعة واقتدار… أمّا «يحيى الجمل» الإنسان فحدّث ولا حرج: لم تكُن الابتسامة تفارق وجهه، تميَّز بالخلق الحسَن، والرحمة والرفق، لا أنسى ـ وأنا أحد تلاميذه وكنت أدرُس «للدكتوراه» بإشرافه ـ عندما كنت أذهب إليه لمراجعة أمرى أنه كان يستقبلنى باشًّا مبتسمًا، وينادينى ويعرِّفنى بأننى زميله ولست تلميذه! ويستقبلنى فى بيته ويضيفنى بنفسه. كنت قريبًا منه… كان ـ رحِمه الله ـ سعيدًا بى، ويشجعنى، ويقول لى إنه سعيد أنه علَّم وربَّى أحد تلاميذه حتى صار رئيسًا لـ«جامعة القاهرة». «يحيى الجمل» كان المثل والقُِدوة والإنسان…».
رحِم الله ابن «مِصر» البارّ، و… وفى «مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسىّ