يحتفل مسيحيُّو الشرق فى التاسع عشَر من يناير الموافق الحادى عشَر من طوبة بـ«عيد الغِطاس»: أحد الأعياد الكبرى التى يحتفل بها أقباط «مِصر». وبهذه المناسبة، نصلى من أجل سلام بلادنا «مِصر» وخيرها، ومن أجل مِنطَقة الشرق الأوسط والعالم بأسره.
وعيد «الغطاس» يعرف بعدة أسماء منها: «عيد الأَبِيفانْيا»، و«عيد الثِيئوفانْيا»، و«عيد الظهور الإلٰهى»، و«عيد الغِطاس»، و«عيد تكريس المياه»، و«عيد التنوير»، و«عيد العِماد». وتُعد شخصية النبى «يوحنا المَعمَدان» إحدى الشخصيات المحورية فى هٰذا العيد.
«يوحنا المَعمَدان»
لُقب «يوحنا المَعمَدان» بعدد من الألقاب منها: «السابق» أى الذى يسبق مجىء السيد المسيح ليُعِد له الطريق، «والصابغ» أى الذى يَصبِغ بالمعمودية، و«نبى العهدين» لأنه شهد العهدين: «العهد القديم» قبل مجىء السيد المسيح، و«العهد الجديد» بعد مجيئه. وقد دعا «يوحنا المَعمَدان» الشعب إلى ترك خطاياهم والتوبة، واعظًا أن يسلكوا بالرحمة نحو الآخرين؛ وهو الذى عمَّد السيد المسيح. وقد بدأت رسالته فى السنة الخامسة عشْرة من مُلك «طِيباريوس قيصر»، إذ كان «بيلاطُس البُنْطى» واليًا على «اليهودية»، فى حين حكم «هِيرُودُس» مِنطَقة «الجليل»، و«فيلبس» أخوه على «إيطورية» وكورة «تَراخونيتِس»، و«ليسانيوس» رئيسًا على «الأبِلِية». أمّا الرئاسة الدينية فى أيام «يوحنا المَعمَدان» فقد كانت لـ«حَنّا» و«قَيافا».
قدَّم «يوحنا المَعمَدان» رسالته فى زمن عصيب مر بالشعب آنذاك، حيث قاسى وطأة الاحتلال الرومانى بكل ما يحمل من عنف وقسوة، فى ظل رئاسة دينية لا تبحث إلا عن ذاتها وكرامتها. وانطلق «يوحنا» يدعو الشعب إلى التوبة ليُعدهم لرسالة السيد المسيح؛ فقد ذُكر عنه أنه الملاك المرسَل من قِبل الله ليُعِد الطريق: «هٰأنٰذا أُرسل ملاكى فيهيئ الطريق أمامى». وقد تحدث عن خدمة هٰذا النبى العظيم الملاك المبشِّر بولادته فقال: «… ويرُد كثيرين من بنى إسرائيل إلى الرب إلٰههم. ويتقدم أمامه بروح إيليا وقوته، ليرُد قلوب الآباء إلى الأبناء، والعصاة إلى فكر الأبرار، لكى يهيئ للرب شعبًا مستعدًّا».
سكن «يوحنا المَعمَدان» البرّية حتى أمره الله أن يخرج إلى الشعب فى جميع الكورة المحيطة بـ«نهر الأردنّ» لينادى فى رسالته بالتوبة وبأعمال الخير. وقد اتسمت شخصيته بإنكار الذات والمناداة بالحق:
التوبة
مع أن مدة خدمة «يوحنا المَعمَدان» كانت قصيرة. استمرت ستة أشهر فقط، فإنها كانت رسالة قوية تركت تأثيرًا كبيرًا فى الشعب، وفى القيادات الدينية والسياسية وقت عصره. تركزت دعوة «يوحنا» فى دعوة الشعب إلى التوبة، قائلًا: «توبوا، لأنه قد اقترب ملكوت السماوات». فأولى خطوات العودة إلى الله أن يقدم الإنسان توبة صادقة عن الخطايا والآثام التى اقترفها. وما إن بدأ «يوحنا» ينادى بالتوبة، حتى أسرع الشعب بالاستجابة له: إذ «خرج إليه أورُشليم وكل اليهودية وجميع الكورة المحيطة بالأردنّ، واعتمدوا منه فى الأردنّ، معترفين بخطاياهم». وما إن يقدم الإنسان توبة أمينة، حتى يبدأ فى الخطوات التالية التى يتسم بها سلوكه الجديد: من أعمال الخير، والرحمة، والمحبة نحو الجميع.
أعمال الخير
علَّم «يوحنا المَعمَدان» الشعب التائب أن يقدم الخير والرحمة للآخرين، محذرًا جميع أفراده من الأعمال الشريرة التى ستجلُِب عليهم غضب الله؛ فإنه حين سأله الجموع: «فماذا نفعل؟»، أجابهم أن طريق الخير هو السبيل الذى يريده الله، فقال لهم أن يشاركوا المحتاجين بما لديهم: «من له ثوبان فليُعطِ من ليس له، ومن له طعام فليفعل هٰكذا».
أيضًا طلب من العشارين محصلى الضرائب أن يكونوا رحماء بالشعب: فقد كانوا يجمعون ضرائب باهظة يئن منها الشعب، وكان منهم من يظلم ويقسو على من ليس لديه، فطلب منهم «يوحنا المَعمَدان»: «لا تستوفوا أكثر مما فُرض لكم». اهتم أيضًا أن يعلم الجُنود أن يكونوا أمناء، فقال لهم: «لا تظلموا أحدًا، ولا تشُوا بأحد، واكتفوا بعلائفكم»؛ فهٰكذا تُبنى المجتمعات الناجحة: على أسس من المحبة والرحمة والعدل والأمانة.
إنكار الذات
كان من الممكن أن تكون عظمة «يوحنا»ـ التى شهدت لها السماء والأرض ـ وشجاعته أيضًا سببين فى شعوره بالرفعة أو السُّمو، إلا أننا ـ من خلال القليل الذى كُتب من كلمات هٰذا النبى العظيم ـ لا نرى فيه إلا نفسًا رقيقة متواضعة. وعلى تبعية الشعب الكبيرة له وإيمانه به نبيًّا ـ حتى إن رؤساء الكهنة والشُّيوخ لم يقدروا أن يقولوا إنه ليس كذٰلك ـ فإنه لم ينسِب إلى نفسه قوة أو عظمة، بل تحدث فى قمة التواضع عن عدم استحقاقه أن ينحنى ويحُلّ سُيور حذاء السيد المسيح، وأن دوره هو أن يعمد للتوبة فقط.
لم يسعَ القديس «يوحنا المَعمَدان» لتكثير الجموع من حوله، بل دائمًا ما كان يوجه أنظارهم إلى ذٰلك الآتى بعده؛ كذٰلك لم يحاول أن ينسِب إلى نفسه أى عظمة أو قوة، بل كان يقدم رسالته بكل إخلاص وأمانة ووداعة، دائم الإشارة إلى ذٰلك الذى يأتى بعده. وفى عماد «يوحنا» للسيد المسيح، شعر بعدم أهليته واستحقاقه أن يُعمِّده فقال: «أنا محتاج أن أعْتَمِد منك وأنت تأتى إلىّ!»؛ فاستحق أن يسمع إجابة السيد المسيح: «اسمح الآن، لأنه هٰكذا يليق بنا أن نُكمِّل كل بِر». وحين أتَوه يحدثونه عن المسيح أنه يُعمِّد، وأن الشعب بدأ يتبعه، قال: «ينبغى أن ذٰلك يَزيد وأنى أنا أنقص». وقد شهِد للسيد المسيح، وسمِعه تلميذان له، فتبِعا السيد المسيح وصارا من تلاميذه ـ وكان أحدهما «أندِراوُس» أخا «بطرس»، بل قد وجَّه «يوحنا» تلاميذه إلى تبعية السيد المسيح.
ما أعظم النفس التى يكتنفها التواضع فترفعها السماء! حقًّا جاءت كلمات «بطرس التلميذ»: «… وتسربلوا بالتواضع، لأن الله يقاوم المستكبرين، وأمّا المتواضعون فيُعطيهم نعمة». فحيث التواضع تكون كل قوة، وبركة، ونعمة، وتعضيدات السماء؛ ولذا يقول أحد الآباء القديسين: «حقًّا، يا إخوة: طوبى لمن كان له اتضاع حقيقى!». ويقول السيد المسيح: «… لأن كل من يرفع نفسه يتضع، ومن يضع نفسه يرتفع».
المناداة بالحق
أيضًا قدمت رسالة «يوحنا المَعمَدان» الحق إلى الجميع حتى صار هو صوتًا للحق فى زمانه، ورمزًا للحق على مدار الأزمان. صار «يوحنا» صوت الحق أمام الجميع فأعلن للشعب أن الشر لن يؤدى إلا إلى هلاكهم، وقدَّم الحق للعشارين والجنود بأن يتركوا الظلم والقسوة، وأيضًا قدمه للولاة: إذ حين أراد «هِيرُودُس» أن يتزوج «هِيرُودِيا» امرأة أخيه؛ لم يتردد «يوحنا» فى معارضته، ولم يبرر له تصرفه، بل أعلن أمامه بكل إصرار وقوة: «لا يحِلّ أن تكون لك امرأة أخيك». كان «يوحنا» يُدرك أن الحق ربما يُودى بحياته، وبخاصة أن «هِيرُودِيا» كانت شخصية شريرة لا تعتدّ بوصايا الله وقد حاولت عدة مرات أن تقتُل «يوحنا» ولٰكنها لم تستطِع، إلى أن تحينت الفرصة فى يوم ميلاد «هِيرُودُس»، إذ دخلت ابنتها ورقصت أمامه؛ فسُرّ بها هو والمتكئون معه، ووعد الصبية أن يهب لها ما تشاء؛ فطلبت رأس «يوحنا المَعمَدان» على طبق!! ولأجل قسَم الملك، أرسل سيافًا وأمر بإحضار رأسه؛ فمضى وقطع رأسه فى السجن؛ وهٰكذا صار شهيدًا للحق.
و… وفى «مصر الحلوة» الحديث لا ينتهى… !
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسىّ