«أول السواح»: أُطلقت على «أنبا بولا» المِصرى الذى وُلد فى «الإسكندرية»، وقدم للعالم حياة التوحد فصار غريبًا عن العالم لا يعرف عن حياته أحد من البشر، وإنما الله الذى كان يعوله جميع أيام حياته التى امتلأت بالعبادة والصلاة. وكما تحدثنا فى المقالتين السابقتين عن حياة أب الرهبان «أنبا أنطونيوس» الذى قدم الرهبنة فى العالم، فإننا نقدم اليوم حياة «أول السواح». وصَلتنا قصة «أنبا بولا» من خلال «أنبا أنطونيوس» الذى التقاه قُبيل نياحته وقام بتكفينه ودفنه. ودرجة «السياحة» هى إحدى الدرجات الروحية التى يصل إليها عدد قليل من الرهبان والمتوحدين الذين تركوا العالم كليةً، عائشين فى حياة الصلاة والتعبد الدائم.
حياته
وُلد «بولا» فى مدينة «الإسكندرية»، وكان له أخ يكبره يسمى «بطرس»، وحدث أنه عندما تُوفى والدهما- وكان «بولا» فى الخامسة عشرة تقريبًا- أن «بطرس» أراد أخذ نصيب أكبر من الثروة الطائلة التى تركها لهما والدهما. وعندما شرعا فى تقسيم الميراث، اشتد الخلاف بين الأخوين على نصيب كل منهما فيه، وعندما حصل «بطرس» على النصيب الأكبر تألم «بولا» لذلك وقال له: «لماذا لم تُعطِنى حصتى من ميراث أبى؟» فأجابه «بطرس»: «لأنك صبى. وأخشى أن تبدده، أمّا أنا فسأحفظه لك». ولما لم يُقنع «بولا»، قرر الأخوان الاحتكام إلى القضاء للفصل فى ذلك الأمر. وفى أثناء توجهما إلى القضاء حدث أن مرت بهما جنازة، فسأل «بولا» أحد المشيِّعين عن المتوفَّى، فقيل له إنه أحد أغنياء المدينة وعظمائها، وها هو يمضى إلى القبر بثوبه فقط تاركًا جميع أمواله. فتوقف «بولا» أمام ذلك المشهد، متسائلًا فى نفسه عما أخذه ذلك الرجل عند موته من ثرواته وكُنوزه، وعندما لم يجد شيئًا قد اقتناه هذا الرجل فى قبره، تضاءلت فى عينيه أمور هذا العالم وغناه، وفكر فى نفسه: «ما لى إذًا وأموال هذا العالم الفانى الذى سوف أتركه وأنا عريان؟!». ثم التفت إلى أخيه، وقال له: «ارجِع بنا، يا أخى، فلستُ مطالبًا إياك بشىء مما لى»! وهكذا بدلًا من أن ينطلق إلى القضاء قرر ترك جميع أمواله لأخيه، بل ترْك العالم، مقررًا أن يعيش حياته فى التعبد والصلوات لله، فانطلق خارج المدينة إلى أحد القبور المهجورة ليقضِّى به ثلاثة أيام، طالبًا إلى الله أن يرشده لكيفية السلوك فى الطريق التى انتواها، أمّا أخوه «بطرس»، فقد بحث عنه كثيرًا جدًّا، وعندما لم يجده حزِن حزنًا شديدًا عليه، وندِم على ما بدر منه.
انطلاقه إلى البرّية
انطلق «أنبا بولا» إلى البرية الشرقية بعد أن ظهر له ملاك يرشده الطريق، وهناك أقام بجبل قريب من ساحل «البحر الأحمر» ليعيش فى حياة الوحدة والتعبد أكثر من سبعين عامًا لم ير فيها وجه إنسان!! وكان لُباسه من ثوب من الليف صنعه لنفسه، أمّا عن طعامه فكان الله يعوله فى البرية إذ كان يأتيه كل يوم غراب حاملًا له نصف خبزة مع ثمار النخيل وبعض الأعشاب الجبلية، أمّا شرابه فكان من عين ماء تنبَُِع قرب مكان توحده.
لقاء
حدث أنه ذات يوم شعر «أنبا أنطونيوس» فى أعماقه أنه أول من سكن الصحراء ليتعبد لله، لكن ملاك الله أرشده أنه يوجد من سبقه إلى الحياة فى البرية: إنسان لا يستحق العالم وطأة قدميه، وأنه من أجل صلواته التى لا تتوقف يرفع الله عن العالم الجفاف ويهب له مطرًا ويأتى بالنيل فى حينه. رغِب «أنبا أنطونيوس» أن يرى ذلك الإنسان الذى شهِدت له السماء، فانطلق فى الصحراء بإرشاد من الله مسيرة يوم حتى وصل مغارة «أنبا بولا»: فكان لقاء «أب الرهبان» و«أول السواح».
وفى اللقاء، قص «أنبا بولا» قصة حياته لـ«أنبا أنطونيوس»، وصارا يتحدثان عن أعمال الله العظيمة فى الكون، ومع البشر. وعند الغروب، جاء إليه الغراب كالمعتاد حاملًا إليه قوت يومه ولكنه هذه المرة خبزة كاملة بدلًا من نصف خبزة! فعندما رأى «أنبا بولا» ذلك، قال: «الآن علمتُ أنك رجل الله: حيث لى أكثر من ثمانين عامًا يأتينى الغراب بنصف خبزة، أمّا الآن فقد أتى بخبزة كاملة، وهكذا فقد أرسل الله إليك طعامك أيضًا». ثم قام الاثنان ليصليا، وفى نهاية حديثهما طلب «أنبا بولا» من «أنبا أنطونيوس» أن يسرع إليه بالحُلة الكهنوتية التى للبابا «أثناسيوس الرسولى» التى أهداها له الملك «قسطنطين» لأنه سينتقل من هذا العالم قريبًا.
انتقاله من العالم
أسرع «أنبا أنطونيوس» وسار فى الجبل يومين حتى بلغ مغارته، وكان خائر القوى تعِبًا من الطريق بسبب طعن سنه، وما إن رآه أحد تلاميذه حتى سأله عن سر اختفائه الأيام السابقة ولكنه آثر الصمت مسرعًا بإحضار الحُلة. ثم عاد إلى حيث مغارة «أنبا بولا»، فوجده جاثيًا على ركبتيه فى وضع السجود لله، فظن فى أول الأمر أنه يصلى فلم يشأ أن يقطع عليه صلواته، ولكن انتظاره طال جدًا فاقترب إليه فوجده قد فارق الحياة!! فبكاه متأثرًا، ثم كفنه بالحُلة التى أحضرها معه، وأخذ ثوب الليف.
أخذ «أنبا أنطونيوس» يفكر فى كيفية دفن «أنبا بولا»، وإذ كان كبيرًا فى السن- قرابة التسعين عامًاـ لم تكُن لديه قدرة على القيام بحفر قبر، وبينما هو لا يعرِف ما يمكن عمله، إذ يبصر أسدين يتقدمان نحوه!! فحدد لهما مقدار طول الجسد وعرضه فحفراه بمخالبهما فى الأرض ثم مضيا!!! فقام هو بدفن «أنبا بولا» وهو يصلى، وكان ذلك فى عام ٣٤١م. أمّا قصة حياة «أنبا بولا» فقد قصها «أنبا أنطونيوس» على تلاميذه بعد عودته. ثم أخذ «أنبا أنطونيوس» ثوب الليف الذى كان يرتديه القديس وقدمه للبابا «أثناسيوس» الرسولى ففرِح به جدًّا، وكان يَلبَسه فى أعياد «الميلاد» و«الغطاس» و«القيامة». وقد أرسل «البابا أثناسيوس» للبحث عن جسد «أنبا بولا» وإحضاره إلى الإسكندرية كى يضعه إلى جوار البطاركة الذين تنيحوا، فلم يستطِع مرسَلوه الوصول إليه، حتى عرَف أنها إرادة الله أن يظل الجسد محفوظًا فى مكانه. وقد كُتبت سيرة ذلك الناسك ووُضعت فى «الإسكندرية»، وكانت تُقرأ لكل طالبى الرهبنة لكى يمتلئوا قوةً وغيرةً فى حياتهم الرهبانية وصلواتهم.
دير على اسمه
أصبح الموضع الذى عاش فيه «أنبا بولا» يحتوى على دير عامر يحمل اسمه ويعيش به كثير من الرهبان. ومن أقوال «أنبا بولا»: «من يهرُب من الضيق يهرُب من الله». وقد كتب أحد الآباء قصة حياة «أنبا بولا»، ثم ختمها بهذه الكلمات: «… أستأذن أولئك الذين لا يعرِفون حدودًا لممتلكاتهم، الذين يزينون بيوتهم بالرخام، الذين يُقرنون بيتًا ببيت وحقلًا بحقل: ماذا أعوز هذا الشيخ فى تجرده؟! أوانى شربكم من حجارة كريمة، وهو كان يروى عطشه بقبضة يده! ملابسكم مطرَّزة بالذهب، وهو لم يكُن لديه رداء أقل واحد فى عبيدكم!!.. ولكن أنتم وثروتكم سيُحكم عليهما بالنار! فاحذروا- أتوسل إليكم: احذروا الثروة التى تحبونها…»!
إنها حياة «أول السواح» الذى أحب الله وبحث عنه فنسِىَ العالم وراءه، متمتعًا بمحبة الله، فى حياة أشبه بتلك التى للملائكة.. و… وفى «مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسىّ