تحدثنا فى المقالة السابقة عن أحوال «مِصر» فى زمن عصيب مر بها أثناء القتال بين الأخوين «المأمون» و«الأمين»، وعن الحِقبة التى تلتها وقت حكم «المطَّلب بن عبدالله»، و«العباس بن موسى»، ثم ولاية «المطَّلب» الثانية، وأعقبها حكم «السَّرِىّ بن الحَكَم» ثم «سُلَيمان بن غالب» ومن بعده «السَّرِىّ» مرة ثانية، وقد عانت «مِصر» آنذاك من كثرة الاضطرابات التى اجتاحت البلاد.
ولاية «السَّرِى بن الحكم» الثانية (٢٠٢-٢٠٥هـ) (٨١٧-٨٢٠م)
وصل أمر الخليفة «المأمون» بإعادة «السَّرِى» إلى حكم «مِصر» فى الوقت الذى كان فى السجن، فعلى الفور أُخرج منه، وأمسك بإدارة شُؤون البلاد من جديد. وعندما تثبّت فى الحكم، أخذ فى متابعة الذين حاربوه فألقى القبض على جماعة منهم وطرد بعضًا خارج البلاد. واستمر فى حكم «مِصر» ثلاث سنين وتسعة أشهر ونصف الشهر تقريبًا، حتى مات وهو يحاول إصلاح بعض الأمور فى البلاد مهتمًا بأحوال المِصريِّين، ولكنه أباد «أهل حوف».
وكانت حرباً بين «السَّرِى» وبين شخص يُدعى «على بن عبدالعزيز الجَروى»، وقد ذكر «المقريزى» عن ذلك أنه فى مدة حكم السَّرِى الأولى: استبدّ «السَّرِى بن الحكم» بأمر «مِصر»، فى مستهل شهر «رمضان». فلما قتل الأندلسيُّون «عمر بن ملال» بـ«الإسكندرية»، سار إليها «الجَروى» فى خمسين ألفًا.. وكاد يفتح «الإسكندرية»، فحين علِم «السَّرِى» بذلك خشِى من فتح «الجَروى» المدينة وامتلاكه إياها فيقوى عليه: فبعث «السَّرِى» إلى «تِنِيس» بَعثًا، فكَرّ الجَروى راجعًا إلى «تِنِيس» فى «محرَّم» سنة إحدى ومئتين. وهكذا فسدت العَلاقة بين «السَّرِى» و«الجَروى» ودبت حُروب كثيرة بينهما. ثم جاء زمن حكم «سُلَيمان بن غالب» الذى امتد خمسة أشهر.
ثم عاد «السَّرِى» إلى الحكم فى قتال لم يتوقف مع «الجَروى»: وذلك أنه فى أثناء حكمه الثانى ورد إليه أمر «المأمون» بمبايعة «على الرضا» وليًّا للعهد من بعده، وأنه بايعه فى «مِصر». وحين قامت ثورة «بغداد» على «المأمون» وجعل الثوار «إبراهيم بن المهدى» خليفةً عوضًا عن «المأمون»- كما ذكرنا من قبل- أرسل «إبراهيم» رسائله إلى قواد الجُنود فى «مِصر» يطلب منهم خلع «المأمون» وولِى عهده «على الرضا» ومخالفة «السَّرِى»، فأذعن لأمره كل من: «الحارث بن زرعة» بـ«الفسطاط»، و«عبدالعزيز بن الوزير الجَروى» بأسفل أرض «مِصر»، و«سَلَمة بن عبدالملك الأَزدى الطحاوى» بالصَّعيد، و«سُلَيمان بن غالب بن جبريل» وكان مع «الجَروى»، و«عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن عبدالجبار الأَزدى»، وقاوموا «السَّرِى» موجهين دعواهم بتثبيت الخلافة «لإبراهيم بن المهدى»، ثم ولَّى هؤلاء القادة عنهم «عبدالعزيز بن عبدالرحمن الأَزدى» فحاربه «السَّرِى» وانتصر عليه وقتل جميع أهل بيته عام ٢٠٢هـ (٨١٧م). وقد هرب إلى «الجَروى» عدد القواد الذين عارضوا «السَّرِى».
كان بعد ذلك أن اتجه «الجَروى» إلى «الإسكندرية» لمحاصرة الأندلسيِّين واصطلحوا هناك على أن تُفتح، فدخلها «الجَروى» بجُنوده، وهناك دعَوا الشعب إلى اختيار «الجَروى» حاكمًا على «مِصر» بدلًا من «السَّرِى»، ثم انتقلت الدعوة إلى صَعيد «مِصر»، وهكذا ازداد القتال بين «السَّرِى» و«الجَروى» اشتعالًا. وأرسل «السَّرِى» ابنه «ميمون» على رأس الجُيوش التى أعدها لمقاتلة «الجَروى»، والتقى «ميمون بن السَّرِى» «الجَروى» وجيوشه فى «شطانوف» حيث دارت حرب بينهما انتهت بهزيمة «ميمون» وقتْله عام ٢٠٣هـ (٨١٩م). ثم أسرع «الجَروى» إلى «الفسطاط» ليحرقها لكنه مُنع من ذلك. وبعد موت «على الرضا» ودخول «المأمون» إلى «بغداد» استتبت الأمور فى «مِصر» لمناصرة «المأمون». وقد قام الأندلسيُّون بخلع «الجَروى» وطرد عامِله منها، فعاد إليهم «الجَروى» عام ٢٠٣هـ (٨١٩م) وحاصر «الإسكندرية»، ثم عاد لحصار المدينة مرة أخرى عام ٢٠٤هـ (٨٢٠م) سبعة أشهر إلى أن أصابته ضربة حجر فمات عام ٢٠٥هـ (٨٢٠م)، ومات بعده بثلاثة أشهر «السَّرِى بن الحكم».
تولى شُؤون «مِصر» من بعد «السَّرِى» ابنه «مُحمد». وفى تلك الحِقبة، ترك «المأمون» «مَرْو» متجهًا إلى «بغداد»، وفى الطريق علِم بموت «على الرضا» فأبلغ إلى أهل «بغداد» ذلك، وتوقفت الحرب بعد أن أعاد «المأمون» عهد الخلافة «للعباسيِّين»، وتمكن من الدُّخول إلى «بغداد».
«مُحمد بن السَّرِى» ٢٠٥هـ (٨٢٠م)
تولى «مُحمد بن السَّرِى بن الحَكَم» بعد موت أبيه حكم «مِصر» من قِبل «المأمون» عام ٢٠٥هـ (٨٢٠م)، وكان لما تولى حكمها أنه جهز لقتال «على بن عبدالعزيز الجَروى» الذى كانت شوكته وسلطته قد اشتدت فى أسفل أرض «مِصر» و«الحوف» الشرقى. خرج «مُحمد» بنفسه لقتال «على الجَروى» ودارت بينهما حُروب كثيرة. ويذكر بعض المؤرخين أن «مُحمد» أرسل جيشًا بقيادة أخيه «أحمد بن السَّرِى»، فالتقى الجيشان فى «شطانوف» وتقاتلا، إلا أن «أحمد» قد هُزم من «على الجَروى»، ثم أرسل أخاه مرة ثانية لحرب «على الجَروى» والتقَيا بمدينة «دمنهور» فكانت حربا شديدة مات فيها عدد كبير من الجانبين، ثم عاد «أحمد» إلى «الفسطاط». ولم تُمهل الأيام «مُحمد بن السَّرِى» لمحاربة «على الجَروى» إذ اعتراه مرض شديد ولزِم الفراش حتى مات سنة ٢٠٦هـ (٨٢٢م) بعد أن حكم «مِصر» قرابة عام وشهرين، وتولى «مِصر» من بعده أخوه «عُبيد الله بن السَّرِى».
وفى تلك الحِقبة، ولَّى «المأمون» «طاهر بن الحسين» بلاد «خُراسان» و«المشرق»، وحارب «بابَك الخُرَّمى»، و«الزَّط».
«عُبيد الله بن السَّرِى» (٢٠٦- ٢١١هـ) (٨٢٢- ٨٢٦م)
بايعه الجُنود بعد موت أخيه. واختلف المؤرخون فى أمر حرب «عُبيد الله» مع «على الجَروى»: فمنهم من ذكر أنه استمر فى محاربته وجرت بينهما مقاتلات كثيرة، ومنهم من ذكر أن «عُبيد الله» لم يعُد إلى محاربته فلم يعترضه «على الجَروى».
ثم أرسل «المأمون» القائد «خالد بن يزيد» لحكم «مِصر» فقدِم فى جيش، ولكن «عُبيد» رفض التسليم له وأرسل أخاه «أحمد» فى جيش يمنع «خالدًا» من التقدم، فالتقى الجيشان فى «فاقوس» وتحاربا، وانضم «على بن الجَروى» إلى جانب «خالد بن يزيد». حفر «عُبيد الله» خندقًا، فى حين سار «خالد» حتى وصل إلى «دمنهور» ثم سار حتى الخندق، وتقاتلا هناك، وفى اليوم الرابع تقهقر «خالد» إلى «دمنهور» حيث أتاه «عُبيد» وتقاتلا مرة أخرى. كفت الحرب فى مدة فيضان «النيل» لتعود فى مدينة «نهيا» بـ«الجيزة» حيث أُسر «خالد» وخُير بين البقاء عند حاكم «مِصر» وبين الذَّهاب إلى حيث يشاء فاختار الذَّهاب إلى «مكة». وجاء أمر «المأمون» بولاية «عُبيد الله» على ما يتسلط عليه من بلاد، وحكم «على بن الجَروى» على ما فى يده من بلاد، وهكذا أصبح لـ«مِصر» حاكمان.
وحدث أن قدِم «على» لجمع الضرائب فمنعه بعض أهل «الحوف» مستغيثين بـ«عُبيد الله» فأعانهم وأرسل إليهم جيشًا بقيادة أخيه «أحمد» بالقرب من «بَنا»- بلدة قديمة تبعُد ميلين عن «سمنود»- وتقاتلا. خرج «عُبيد» من «الفسطاط» وعسكر بجيشه فى «البتانون» بـ«الغربية»، ثم أخذ فى التنقل بين البلاد هو و«على الجَروى» مغيرين عليها.
لم تمضِ مدة طويلة حتى أرسل الخليفة «عبدالله بن طاهر» حاكمًا على «مِصر» بدلًا من «عُبيد»، بجُيوش كثيرة لمحاربته ونضم إليه «على بن الجَروى». أعد «عُبيد الله» جُيوشه لمحاربة «عبدالله» وأخذ فى حفر الخندق ثم خرج لقتاله فدارت حرب شديدة بين الفريقين انتهت بهزيمة «عُبيد الله» وفِراره إلا أن «عبدالله» تبِعه، ويذكر المؤرخ «التَّغرى»: … وتبِعه «عبدالله بن طاهر» بعساكره، فسقط غالب (معْظم) جند «عُبيد الله» المذكور فى الخندق الذى كان «عُبيد الله» احتفره، ودخل هو بأُناس قليلة إلى داخل «مِصر» وتحصن به، فحاصره «عبدالله بن طاهر» وضيَّق عليه حتى أباده وأشرف على الهلاك…».. و.. وعن «مصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسىّ