تحدثنا في المقالة السابقة عن الصراع الذي دار في “مِصر” بين “السَّرِيّ” و”الجَرَوِيّ” وأبنائهما، وما وقع من أحداث أثّرت بدرجة كبيرة في “مِصر “، حتى إنه أصبح لها حاكمان في زمن واحد! فقد جاء أمر “المأمون” بولاية “عُبيد الله” على ما يتسلط عليه من بلاد، وبحكم “عليّ بن الجَرَوِيّ” على ما في يده من بلاد، على أن يلتزم كل منهما بالضرائب. وقد وقعت حُروب كثيرة بين الطرفين، إلى أن قُدم “عبد الله بن طاهر” حاكمًا على “مِصر” بدلًا من “عُبيد” فأتاها بجُيوش كثيرة لمحاربته، وانضم “عليّ بن الجَرَوِيّ” إلى جانب “عبد الله” في الحرب حتى هزيمة “عُبيد الله” وفَرِّه. وفي تلك الأثناء، عاد “أبو صالح التَّميميّ” حاملًا كتاب أمان “عُبيد” من الخليفة، فكان “عُبيد” قد أرسل “أبا صالح التَّميميّ” إلى الخليفة “المأمون” في أمر “عبد الله بن طاهر”، بعد أن تدخل كاتب “عُبيد” في أمر الصلح بينه وبين “عبد الله” فكتب له كتاب أمان وأمره بالذهاب إلى “المأمون”؛ وهٰكذا عُزل “عُبيد الله” عن حكم “مِصر” بعد أن حكم أربعة سنين وسبعة أشهر تقريبًا. غادر “عُبيد الله” “مِصر” متوجهًا إلى “المأمون” فأكرمه وسامحه.
عبد الله بن طاهر (٢١١-٢١٢هـ) (٨٢٦-٨٢٧م)
حكم “عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب” على “مِصر” من قِبل الخليفة “المأمون” بعد أن حارب “عُبيد الله”، وقد ذُكر عنه أنه كان أديبًا يُحسن قرض الشعر، وكريمًا يتغانى بكرمه الشعراء. وفي عام ٢١٢هـ، أراد أن يذهب إلى “الإسكندرية” مستخلِفًا “عيسى بن يزيد الجُلُوديّ” على صلاة “مِصر”؛ فنزل “عبد الله” على حصن “الإسكندرية” لمحاربة جماعة من المغاربة حضرت إلى “الإسكندرية” من “الأندلس” بقيادة شخص يُدعى “عمر بن عيسى الأندلسيّ”؛ وقد اختلف المؤرخون في أمر حربه مع تلك الجماعة: فمنهم من ذكر أنه حاربهم حتى طردهم من “الإسكندرية”، وبعضهم يذكرون أنهم تركوا “الإسكندرية” حين علِموا بقُدوم “عبد الله” خوفًا منه، وبعض ثالث يذكر أنه حاصر حصن “الإسكندرية” حتى قدِم إليه أهلها طالبين الأمان؛ وقد صالح هو الأندلسيِّين على أن يرحلوا من “الإسكندرية” إلى المكان الذي يرغبونه، بشرط ذكره المؤرخ أ. “عبد العزيز جمال الدين”: “… فخرج إليه أهلها بأمان، وصالح الأندلسيِّين على أن يسيّرهم من «الإسكندرية» حيث أحبوا، على ألا يُخرجوا في مراكبهم: أحدًا من «مِصر»، ولا عبدًا، ولا آبقًا (متمردًا هاربًا)؛ فإن فعلوا فقد حُلت له دماؤهم ونُكث (نُقض) عهدهم. وتوجهوا، فبعث «ابن طاهر» من يفتش عليهم مراكبهم، فوجد فيها جمعًا من الذين اشترط عليهم أن لا يُخرجونهم. فأمر «ابن طاهر» بإحراق مراكبهم. فسألوه أن يرُدهم إلى شرطهم، ففعل. وولّى على «الإسكندرية» «إلياس بن أسد ابن سامان».”. ثم عاد “عبد الله بن طاهر” إلى “الفسطاط”.
أمّا عن حكمه في “مِصر”، فيذكر المؤرخون أنه أدار شُؤون البلاد حسنًا فرتب أحوالها، وقد حكمها قرابة عام وخمسة أشهر، ثم استخلف عليها “عيسى بن يزيد الجُلُوديّ”، متوجهًا إلى “العراق”، ثم ولّاه “المأمون” حكم “خُراسان” من بعد موت أبيه. وتولى حكم “مِصر” من بعده “عيسى بن يزيد الجُلُوديّ”.
“عيسى بن يزيد الجُلُوديّ” (٢١٢-٢١٤هـ) (٨٢٧-٨٢٩م)
وكما ذكرنا فقد حكم “عيسى بن يزيد” على “مِصر” بعد أن أنابه “عبد الله بن طاهر” عنه في حكمها؛ فثبته الخليفة “المأمون” على حكمها نائبًا عن “عبد الله” حتى عام ٢١٣هـ (٨٢٩م). ثم جاء أمر الخليفة “المأمون” بعزل “عبد الله بن طاهر” عن حكم “مِصر” وتولية أخيه “المعتصم مُحمد بن هارون” الذي ثبّت “عيسى” حاكمًا على “مِصر” نائبا عنه، ولٰكنه وضع “صالح بن شِيرزاد” لجمع ضرائب البلاد. ولما تولى “صالح” مهمات منصبه، زاد في الضرائب المفروضة على المِصريِّين زيادة شديدة، وظلم أهل البلاد حتى قامت عليه الثوْرات، واجتمع أهل “الحوف” لأجل محاربته بقيادة “عبد السلام بن أبي ماضي” و”عبد الله بن حُليس الهلاليّ”. فقرر “عيسى بن يزيد” مناصرة “صالح” وأرسل جيشًا بقيادة ابنه “مُحمد”، ودارت حرب ضارية بين الفريقين؛ فانهزم جيش “عيسى” ولم ينجُ من أصحابه سوى ابنه. فبلغ ذٰلك “المعتصم”، وعزل “عيسى” عن حكم “مِصر” ـ بعد مدة حكم قاربت عام وسبعة أشهر ـ وجعل عليها “عُمَير بن الوليد” بدلًا منه.
“عُمَير بن الوليد” (٢١٤هـ-٨٢٩م)
هو حاكم “مِصر” “عُمَير بن الوليد التميميّ”، وتولاها نائبًا عن “المعتصم”. وما إن استقر له الأمر وبدأ في الحكم، حتى أعلن أهل “الحوف” عصيانهم عليه؛ فجهّز الجيوش لحربهم، تاركًا ابنه “مُحمد بن عُمَير” لتدبير شُؤون “مِصر”. وانضم إلى “عُمَير” في القتال “عيسى بن يزيد”. وفي الحرب التقى الجيشان، وكانت بينهما حُروب شديدة ومعارك ضارية حتى قتل “عُمَير” في إحداها؛ فكان حكمه على “مِصر” شهرين ـ ويذكر بعض المؤرخين أن حكم “مُحمد بن عُمَير” استمر بعد مقتل والده شهرًا. ثم تولى “عيسى بن يزيد” الحكم مرة ثانية.
ولاية “عيسى بن يزيد الجُلُوديّ” الثانية (٢١٤-٢١٥هـ) (٨٢٩-٨٣٠م)
ولّاه “المعتصم” على “مِصر” مرة ثانية بعد موت “عُمَير بن الوليد”. وقد استمرت الحرب بين “عيسى” وأهل “الحوف” حتى التقى الجيشان في مَِنطَِقة “المطرية” قرب “عين شمس”، ودارت حرب شديدة بين الفريقين هُزم فيها “عيسى” وقُتل من جيشه كثيرون؛ فلجأ إلى “مِصر” (“الفسطاط”).
بلغ إلى الخليفة “المأمون” أمور الحُروب الواقعة في “مِصر”؛ فأرسل إلى أخيه “المعتصم” وطلب منه الخروج إليها؛ ويذكر المؤرخون أن “المأمون” قال له: “امضِ إلى عملك وأصلِح شأنه.”. قدِم “المعتصم” من “بغداد” إلى “مِصر” في جيش قِوامه أربعة آلاف، وقاتل أهل “الحوف” حتى هزمهم وأفناهم قبل دُخوله “مِصر” (“الفسطاط”)، ومعه “عيسى بن يزيد”، وسكن فيها حتى استتبت الأمور بها. ثم خرج إلى “الشام” عام ٢١٥هـ (٨٣٠م) مع جيشه للحرب بعد عزل “عيسى بن يزيد” وتولية “عَبْدَوَيهِ بن جَبَلة” بدلًا منه؛ وبذٰلك تكون ولاية “عيسى بن يزيد” الثانية قُرابة ثمانية أشهر.
أما عن أحوال “الكنيسة القبطية” في “مِصر” في تلك الأثناء، فكما ذكرنا في مقالة سابقة: أن “البابا مَرقس الثاني” البطريرك التاسع والأربعين في بطاركة الإسكندرية تنيح في ليلة “عيد القيامة” من عام ٨١٩م بعد انتهاء الصلوات، وقد كان يُصلي إلى الله أن يريحه من أتعاب هٰذا العالم، وبخاصة: بعد ما شهِده من أتعاب وآلام وضيقات من “الأندلسيِّين” في “الإسكندرية” حتى إنه تركها، ثم بعد ما تعرضت برِّية “وادي النطرون” التي يسكنها كثير من الرهبان للنهب والسلب، وقَتل عدد كبير من رهبانها وأَسرهم، وتهديم كنائسهم وقَلاليهم (مساكنهم) حتى إنها صارت خَرِبة مُوحِشة!! وقد جلس على الكرسيّ المَرقسيّ من بعده “البابا يعقوب” الخمسون في بطاركة الإسكندرية.
“البابا يعقوب” (٨١٩-٨٣٠م)
تولى رئاسة الكنيسة في أثناء خلافة “المأمون”. ويُذكر عن ذٰلك الأب أنه كان قَسًّا في “دير أنبا مقار” بوادي النطرون؛ وبعد ما تعرضت له تلك المنطقة من خراب اتجه إلى أحد أديرة طيبة (“الأقصر”)، متحينًا الفرصة للعودة إلى ديره. وبعد زمن، شاهد رؤيا علِم منها أن الله يدعوه إلى العودة لديره في برّية “وادي النطرون”؛ فعاد مسرعًا إليها وجمع حوله من تبقى من رهبانها، وعاش في حياة تعبد وصلاة وصوم. فأتى إليه عدد من القاصدين حياة الرهبنة، وصاروا تلاميذ على يديه، و … وفي “مِصر الحلوة” الحديث لا ينتهي …!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ