حين تحاول الإبحار فى حياة ذٰلك الإنسان، الذى احتوى بين أضلعه قلبًا كبيرًا ينبِض حبًّا لكل إنسان، واحتضن فى أعماقه ذهنًا واعيًا جمع فيه معارف كثيرة، وحكمةً شديدة تجلت فى مواقف الحياة، فأنت إنما حتمًا لن تبحر إلا على الشطآن!! إن الأعماق، يا عزيزى، لتزداد اتساعًا كلما اتسعت شخصية الإنسان، حتى لا تستطيع إدراكها أو التعبير عنها فى ظل أحرف وكلمات!! إنه مثلث الرحمات «البابا شنودة الثالث»، الذى احتفلنا بذكرى رحيله الخامسة يوم الجمعة الماضى، الموافق السابع عشَر من مارس.
يقول الكاتب الصحفى الكبير الراحل، أ. «مصطفى أمين»: «الظلم يقوّى المظلوم ولا يضعفه! فالمطارق التى هوت على (البابا شنودة) لم تهدمه، بل جعلته أكثر ثباتًا ومكانة فى قُلوب الأقباط. ولقد وقفنا بجانب بطريرك الأقباط، ونحن مسلمون متمسكون بعقيدتنا، ولكننا فى الوقت نفسه نؤمن بحرية العقيدة: فلا إكراه فى الدين، ونرى أن قوة (مِصر) الحقيقية هى فى الوحدة الوطنية الكاملة بين الأقباط والمسلمين». نعم، فقد امتلأت حياة «البابا شنودة الثالث» بالمطارق التى هوت على أيام العمر، إلا أنها كانت جميعها بيد الله الذى جعل منها أحجارًا ارتقى بها إلى حيث القمم والنجاحات! كذلك فإنها وهبت له عمقًا واتساعًا فى الشخصية ليَضحَى أحد النماذج التى لا يجود بمثلها الزمان كثيرًا، وفى هذا أتذكر كلمات الأستاذ الدكتور «محمود حمدى زقزوق» وزير الأوقاف الأسبق، الأمين العام لبيت العائلة المِصرية: ««قداسة البابا شنودة الثالث» يُعد شخصية فريدة، حيث يتمتع بميزات عديدة قل أن نجدها فى شخصية أخرى: فهو زعيم دينى كبير، يتمتع بذكاء خارق، واطلاع واسع، وثقافة موسوعية، وحكمة يُغْبطه عليها كثيرون، وفضلاً على ذلك فهو شخصية مرحة ومنفتحة على الناس جميعًا، ومن أجل ذلك فإنه يَحظَى باحترام وتقدير كبيرين لدى المِصريِّين جميعًا مسلمين وأقباطًا». لم تكُن تلك الشخصية التى حظِى بها «البابا شنودة الثالث» والتى شهِد له بها كثيرون هى نتاج حياة سهلة، بل كانت حياة اجتاحتها العواصف والأعاصير فتعلم على إثرها، وثقلت شخصيته فى كل ما مر به من خُطوب.
بداية قاسية
بدأت حياة «البابا شنودة الثالث»- كما يذكر قداسته- فى قرية «سلام» بـ«أسيوط»، فى الثالث من أُغسطس، فاقدًا والدته بعد أن ولدته مباشرة، ليقضِّى أيام طفولته الأولى يتيمًا، يعمل على تدليله من حوله تعويضًا، ولكنه فى الوقت نفسه كان مايزال مفتقدًا محبة الأم ورعايتها، يحمل فى أعماقه شعورًا من الغربة عمِلت على ربطه بالله بالأكثر، فأنشد فى إحدى قصائده:
أَحَقًّا كَانَ لِى أُمٌّ فَمَــــــــاتَتْ؟ أَمْ أَنِّـــى خُلِـــقْتُ بِـــدُونِ أُمِّ؟
رَمَانِى اللهُ فِى الدُّنْيَا غَرِيبًـــا أُحَلِّـــقُ فِـــى فِضَـــاءٍ مُدْلَـهِمِّ
وَأَسْأَلُ يَا زَمَانِى: أَيْنَ حَظِّـى بِأُخْــتٍ أَوْ بِخَــالٍ أَوْ بِعَـــمِّ؟!
وَأَسْأَلُ عَنْ صَدِيـقٍ لَا أَجِــدُهُ كَأَنِّى لَسْتُ فِى أَهْلِى وَقَوْمِى!
ومع أن تلك البداية كانت قاسية، فإنها حمَلت معها إعدادًا لشخصيته المرهَفة الحس التى تشعر بآلام الآخرين وحاجاتهم، والتى تجلت بوضوح فى معاملته لكل إنسان لديه احتياج أو يشعر بألم فيمُد يد المعونة إليه هو وكل من فى شدة أو ضيق، وفى الوقت نفسه صار- وهو طفل يعمل الجميع على تدليله- ابنًا للكل، يحبونه ويحمل لهم الحب، وهكذا تعلم محبة كل أحد منذ نعومة أظفاره: فقد كانت كثير من نساء القرية يقُمن برضاعته، وبذلك صار له إخوة كثيرون فى الرِّضاعة يختلفن معه فى اللون والدين والمذهب!! فإن كان قد فقد خصوصية محبة الأم، فإنه قد اكتسب محبة الجميع يُعده الله بها لأن يكون أبًا لشعب كبير يرعاهم بمحبة فياضة، وقد قال ذات مرة: «إن فقدان الأم هو فقدان نبع فياض من المحبة، وكان التعويض عن محبة الأم الراحلة هو المحبة الغامرة من الناس، ومحبتى للناس، كنتُ كلما قابلتُ أحدًا من أصدقائى أُغمره بحب كبير، وأرفع حجاب الكُلفة بينى وبينه، ولذا فقد كان لدى عدد هائل من الأصدقاء من مراحل الطفولة والصبا والشباب. وجعل الحب الغامر من قلوب عديد من الناس أن يُغنينى عن الحب الفردى الذى يمنحه الأم والأب. ثم تحولت المحبة- التى تأتى عادة من لدُن الأم- نحو الجماعة، والكنيسة، والمجتمع…». لقد صارت حياته بالجميع وللجميع، قريبًا من الكل وبعيدًا عن الكل! يعيش فى العالم ولكنه غريب عنه إذ يحيا فى عَلاقة محبة عميقة بالله.
طفولة وحيدة
لم يكن «للبابا شنودة» إخوة يقاربونه فى العمر، ما جعله يشعر بكثير من الوَحدة، وقد ازداد ذلك الشعور بعد تنقلاته فى مرحلة التعليم الابتدائى ما بين «دمنهور» و«أسيوط» و«بنها» و«القاهرة». وقد قادته تلك الوَحدة إلى أن يصنع لنفسه صديقًا يرافقه دائمًا: «الكِتاب»، فيقول: «أذكر الآن أننى كنتُ فى طفولتى مُولِعًا بالقراءة، إذ لم يكُن حولى أطفال فى مثل سنى ألعب معهم، فكانت لُعبتى المفضلة هى الكتب، أقرؤها بنَهَم شديد». وهكذا صارت الوَحدة طريقًا إلى نمو شخصية الطفل «نظير»، لينفتح على عوالم: الفكر، والأدب، والطب، والتاريخ، والاجتماع، وأحبها إلى قلبه عالم «الشعر» الذى بدأ فى كتابته وهو مايزال فتى فى المرحلة الثانوية، وعن محبته للشعر يقول: «كانت محبتى للشعر وانشغالى به قد جعلتنى أتجه فيما بعد إلى دراسة الفرع الأدبى وليس الفرع العلمى». لقد كان «البابا شنودة» يملِك ذاكرة قوية جدًّا فى جميع ما يمر عليه من أمور أو مواقف وأيضًا ما يقرؤه، فقد تدرب منذ الصغر على كثرة القراءة وحفظ قصائد الشعر وقرضها، ما أثقل تلك الموهبة لديه بدرجة كبيرة، وظلت تصحبه حتى انتقاله من هذا العالم.
نضج مبكر
إن اتساع فكر الشاب «نظير جيد» ورحابة قلبه قد جعلاه محل احترام وتقدير وثقة من جميع زملائه، الذين كانوا يلجأون إليه فى كثير من أمور حياتهم ومشكلاتهم، فكان مشيرًا لهم على صغر سنه! وفى استماعه إليهم، كان يكتسب كثيرًا من المعرفة والخبرات فى مناحى الحياة شتى، كما كان يكتسب صداقة كل مَن يلتقيه ومحبته.
شباب لا يكل
فى تلك المرحلة من العمر، تبدأ شخصية الإنسان فى التبلور والظهور بوضوح من خلال المعاملات مع الآخرين، وقد نضجت شخصية الشاب «نظير جيد»، وظهرت ملامحها التى خطتها ما مر به من ظروف وتجارِب استطاع بمعونة الله أن يستخدمها لبنائه، وقد عمِلت على إعداده كقائد. فى تلك المرحلة، بدأ يشعر برغبة عارمة فى حياة أكثر اتساعًا من التى فى الجامعة أو العمل، فاتجهت أفكاره إلى حياة الرهبنة زاهدًا العالم، ولم يكُن ذلك النحو نتيجة انطواء أو هرب من فشل، بل على النقيض تمامًا: كان ناجحًا فى حياته العملية والاجتماعية، متفوقًا، محبوبًا من الجميع، مشهودًا له بخفة الظل وإطلاق الدعابات اللطيفة، وبكتابة الأشعار الفكاهية التى نتذكرها جميعًا. لكن قلبه كان قد ارتبط حبًّا بالله، فيقول: «لقد قررتُ أن أعيش مع الناس وأُسعدهم ما استطعتُ ما دمتُ موجودًا بينهم. وحين أخلو بنفسى، أصفو لها، وأعيش لربى، إلى أن يُطلقنى الله بسلام من جو العالم إلى حياة الرهبنة». و… وفى «مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسىّ