تحدثنا فى المقالة السابقة عن «البابا يوساب الأول»، الثانى والخمسين فى بطاركة «الكرسيّ المَرقسيّ»، وما مرت به من أحداث وصعوبات ومشكلات منذ توليه رئاسة «كرسيّ مار مَرقس الرسول»، كما تحدثنا عن أُسقف «تنيس» وأُسقف «مِصر» («مصر القديمة» حاليًا، أو «الفسطاط») ومعاملتهما القاسية لرعيتَيهما، وقضاء المجمع برفعهما عن كرسيَّيْهما وهو ما جعلهما يتآمران على «البابا يوساب» فوشَيا به لدى الحاكم؛ ويذكر لنا المؤرخ «ساويرُس بن المقفع» أنهما اتهما «البابا يوساب» بتحريض البِشْموريِّين على الثورة ضد الخليفة والحاكم فقالا له: «قد أسلم الله إليك أعداءك وأعداء الملك وأفنيتهم، ويجب ألا تُبقى أحدًا ممن كان سبب نفاقهم. فقال لهما: ومن هو الذى أحوجهم إلى النفاق على الملك؟ فقالا له: البطرك «يوساب» فعل ذٰلك- أرادا بذٰلك حتى أن يقتُله ـ… وكل ما فُعل (من ثورات هو) بأمره (بأمر البابا) حتى لحِق الملك والأميرـ حفِظه الله- التعب العظيم».! وأضافا أن البابا البطريرك مجتمع إليه فى الكنيسة عدد كبير من الشعب مستعد لتنفيذ ما يأمر به؛ فما كان من الحاكم إلا أنه صدق وشايتهما وأرسل أخاه إلى الكنيسة لاستحضار الأب البطريرك لقتله، مصطحبًا الأسقفين الشاكيَين لكى يُرشداه إلى «البابا يوساب». تقدم أسقف «تنيس» الأمير أخا الحاكم وأشار إلى البابا البطريرك حتى يقبضوا عليه؛ وما إن رأى الأمير البابا حتى استل سيفه راغبًا فى قتله!! ولٰكن مالت يده فجاءت ضربة السيف فى عمود من الرخام انكسر لتَوّه. ازداد الأمير غضبًا فأخرج سِكينًا محاولاً ضرب «البابا يوساب» فى جنبه فلم تشُقّ سوى ثيابه ولم تصل إلى جسده. وعندما نظر الأمير ما حدث، وكيف أن الطعنة لم تمسسه، تيقن أن ذٰلك الأب المبارَك محاط بعناية إلٰهية تحميه من القتل؛ فقرر أن يصطحبه إلى أخيه. ويذكر بعض المؤرخين أن أفراد الشعب حين نظروا الجند يجذبون «البابا يوساب» للذَّهاب به إلى الحاكم، تعلقوا به وبَكَوه، فهدأهم البابا وخرج من الكنيسة وهم يسيرون خلفه فى حَُزَْن عظيم ما جعل الأمير يغضب فضرب البابا البطريرك على رأسه بسوط، ويذكر البعض أنها مقرعة، وانجرحت عيناه.
ما إن وصل «البابا يوساب» إلى قصر الحاكم، حتى بادره الحاكم بما قيل فى شأنه وما اتُّهم به من قِبل الأسقفين؛ أخبره «البابا يوساب» بحقيقة الأمر الخاص بالبشموريين، وحقيقة أمر الأسقفين ويإبعادهما عن منصبَيهما بسبب قيام الشعب عليهما، فعندئذ علِم الحاكم بحقيقة الأمر واستوثق من براءة «البابا يوساب» ومن بُطلان الاتهام الذى قُدم فيه؛ فتحول نحو الأسقفين مستشاطًا وبدأ يطلب ردعهما وعقابهما. أمّا «البابا يوساب» الذى عُرف بمحبته وبسماحته وبغفرانه لمن أساء إليه، فقد هاله أن يرى الشر يقترب إلى شخصين من أبنائه ـ وإن حادا عن الطريق المستقيم وصنعا معه الشر؛ فطلب إلى الحاكم أن يصنع فيهما خيرًا كرامةً لله بالعفو عنهما فقال له: «مذهبى يأمرنى بفعل الخير مع من يعمل معى الشر، والذى سعيا به هذان قد طرح الله فى قلبك الصحيح، فأسألك أن تفعل معهما خيرًا برئاستك واتركهما كرامة لله». تعجب الحاكم من محبة «البابا يوساب» ومن مسامحته لمن أرادا قتله، وأطلق الأسقفين. وعندما وصلت تلك الأخبار إلى مسامع الخليفة، أجَلّ «البابا يوساب» وأمر بإكرامه.
سيامات
اهتم «البابا يوساب» بكل نفس حتى أولٰئك الذين كانوا يرغبون فى اعتلاء الكرسيّ البطريركيّ بدلاً منه! فقد اهتم بـ«إسحاق بن أندونة» ـ بعد أن رأى أنه صار مرفوضًا من الشعب ـ فأراد أن يربح نفسه المتألمة ـ إذ هو واحد من أبنائه أيضًا؛ فجعله شماسًا، ثم نائبًا عنه فى أوسيم وهو الأمر الذى فرِح من أجله كثيرًا معلِنًا خضوعه للبابا البطريرك؛ وبعد حين، أراد الأب البطريرك أن يرسُِم أسقفين لكل من «تنيس» و«مِصر» (بدلاً الأسقفين المخلوعين): فسام شخصًا يُدعى «ديمِتْرِيوس» أسقفًا على «تنيس»، أمّا «مِصر» فقد جعلها فى رعاية «أنبا إسحاق» الذى رسمه أسقفًا على أوسيم وهٰكذا ظل أسقفًا على «كرسيّ أوسيم» وقائمًا بأعمال رعاية «كرسيّ مِصر» حتى نهاية حياته.
سعى نحو الكرامة
كان بعد وفاة «أنبا إسحاق» أسقف أوسيم الموكَل بأعمال رعاية «كرسيّ مِصر»، أن رسم «البابا يوساب» أسقفًا على «مِصر» هو «الشماس يوحنا» باسم «أنبا يوحنا» بِناءً على طلب من وُجهاء «مِصر»، أما «كرسيّ أوسيم» فقد رسم له «الشماس بقيرة» أسقفًا لٰكنه سَُِرعان ما تنيح بعد سيامته بوقت قليل؛ وما إن خلا «كرسيّ أوسيم» مرة ثانية حتى رغِب شخص يُسمى «تادرس» ـ وكان تلميذًا لـ«أنبا إسحاق» فى أن يصبح أسقفًا!! ولٰكن الشعب لم يكُن راغبًا فى رئاسة ذٰلك الإنسان؛ فلم يستجِب البابا البطريرك لرسامته. فتملك الغيظ من «تادرس» ولجأ إلى «عليّ بن يَحيَى الأرمنيّ» حاكم مصر فى زمن الخليفة «المعتصم» متوسلاً إليه أن يُلزم «البابا يوساب» برسامته أسقفًا!!! فاستحضر الوالى البابا وعرض عليه الأمر فرفض البابا تدخل الحاكم فى أمور الكنيسة وفى اختيار رعاتها؛ فغضِب الوالى غضبًا شديدًا مهددًا بهدم كنائس «الفسطاط» جميعها!!! وبدأ بتهديم «الكنيسة المعلَّقة» من أعلاها، و«البابا يوساب» يبكى بكاءً مُرًّا. وبينما الأحداث متواترة، حضر بعض الأراخنة إلى «البابا يوساب» طالبين إليه أن يرسُِم ذٰلك الإنسان أسقفًا من أجل سلام الكنيسة وأنه هو المسؤول عن نفسه إذ من يسعى لرتبة ومكانة بالكنيسة من دون استحقاق يعرِّض نفسه للهلاك وما فعله يرتد على رأسه؛ فرضى «البابا يوساب» بمشورة الأراخنة بعد أن أشهد الله عليه. ولٰكن عندما علِم الحاكم بسيامة ذٰلك الشخص أسقفًا لم يهدأ عن غضبه ولم يعدل عن تهديم الكنائس حتى يقدم البابا له مبلغًا كبيرًا من المال!! فتقدم الأراخنة لدى الوالى وضمِنوا البابا فى سداد المال ورسامة الأسقف؛ وهٰكذا سِيم «تادرس» أسقفًا على «أوسيم».
«الفسطاط»
لم تكَد الأمور تهدأ قليلاً حتى أثار «أنبا يوحنا/ بنا» أسقف «الفسطاط» («مِصر») ضيقات أخرى على «البابا يوساب»؛ فقد رغِب فى الحصول على كرامة أعلى مستخدمًا تقربه من قاضى قضاة «مِصر» آنذاك الذى كان يُشتهر عنه كثرة الجَور والظلم، حتى يُميل قلبه ضد «البابا يوساب»؛ ونجح فى ذٰلك إذ قد بدأ القاضى يفكر فى كيفية الإساءة إلى البابا البطريرك. وحدث فى ذات يوم، بينما كان «أنبا يوحنا/ بنا» وبعض أساقفة آخرين منحازين إلى جانبه حاضرين لدى القاضى، أن أرسل القاضى فى استدعاء «البابا يوساب» إليه. وعند حضور البابا، طلب القاضى من الأساقفة الحاضرين لديه أن يُنكروا رئاسة البابا وأن يجعلوها لأسقف «مِصر»!! فأجابوه إلى طلبه وأعلنوا طاعتهم لما طلب. وهنا تحدث «البابا يوساب» إليهم باللغة القبطية عن خطإ ما يفعلونه، وكان يجلس أحد علماء المسلمين الذى يفهم القبطية فأبلغ القاضى بتفسير ما قاله «البابا يوساب». غضِب القاضى غضبًا شديدًا إذ حسِب أن «البابا يوساب» يقاوم سلطانه، لٰكنه أدرك حقيقة الأمر عندما أخبره «البابا يوساب» أن لديه اعتمادًا من الخليفة «المأمون» ثم «المعتصم »ومن بعده «الواثق» برئاسته؛ طلب القاضى هٰذا الاعتماد، فلما أظهره البابا له أطلقه بكرامة وإجلال. وغادر «البابا يوساب» وهو يحمل المحبة والغفران لمن قاومونه، مصليًا إلى الله من أجلهم أن لا يُقِيم لهم تلك الخطيئة.
لم يتوقف أسقف «مِصر» عن الوشاية بـ«البابا يوساب» لدى قاضى القضاة الذى كان يتحين كل فرصة للإساءة إلى «البابا يوساب»!! فحدث أنه… و… وعن «مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسىّ