بدايةً، أهنئ إخوتنا المسلمين فى «مِصر» و«الشرق الأوسط» والعالم بـ«عيد الفطر»، متمنيًا كل خير وسعادة للجميع، وأن تمتلئ رُبوع أرض «مِصر» بالسلام والخير.
تحدثنا فى المقالة السابقة عن وقائع فى حياة «البابا يوساب الأول» (الثانى والخمسين فى بطاركة «الكرسيّ المَرقسيّ») من وشايات وإهانات وظلم وضيقات؛ وذكرنا اهتمامه بكنيسة «الحبشة» التى لم يتمكن من الذَّهاب إليها وعن دَوره الكبير فى إنهاء الحروب بين مُلوك «الحبشة» ومُلوك «مِصر» حين أرسل إلى ملك الحبشة يدعوه إلى السلام مع الخليفة؛ فاستجاب الملك لكلمات «البابا يوساب الأول» وأرسل ابنه «جرجس» إلى الخليفة «المعتصم» الذى تلقاه بالإكرام الكثير وقال له: «قد وهب الله لك جميع ما مضى من السنين لأجل حضورك إلى عندى وطاعتك لى».
وقد أقام «جرجس» لدى الخليفة «المعتصم» أيامًا كثيرة، ثم غادر بكرامة محملاً بهدايا وبجُنود يرافقونه حتى يصل إلى بلاده بسلام. وهٰكذا انتهت الحُروب والخلافات بينهما بصلوات «البابا يوساب» وحكمته.
ويُذكر أنه كان آنذاك أُسقف رئيس على كنيسة الحبشة يسمى «يوحنا»ـ قد رُسم بيد «البابا يعقوب» (الخمسين فى بطاركة «الإسكندرية»). وفى أثناء انشغال الملك بالحُروب، قامت الملكة بتحريض أهل البلاد على طرد الأب الأُسقف «يوحنا» وسيامة آخر عوضه!! فعاد هٰذا الأب الأُسقف إلى ديره بـ«مِصر» وظل هناك؛ لٰكن الحبشة شهِدت بعد رحيله نكبات كثيرة من انتشار أوبئة وتأخر سقوط الأمطار؛ وبينما الأمور هٰكذا، إذ يعود الملك، وهو لا يدرى ما حدث! وحين علِم بما صار، أرسل من توّه إلى «البابا يوساب»، يعتذر عما بدر من شعبه، ملتمسًا عودة الأب الأُسقف إلى «الحبشة» فى أسرع وقت. أرسل «البابا يوساب» فى طلب الأُسقف «يوحنا»، وعزاه، وطيب خاطره، وطلب إليه العودة إلى بلاد «الحبشة» فاستجاب وأطاع؛ وكان عند وُصوله هناك، أن فرِح به الملك كثيرًا. ولٰكن لم تتوقف متاعب الأسقف «يوحنا» من الأشرار فى محاولات لطرده، لٰكنه استمر فى عمله وخدمته، والله يظهر عجائبه فيه.
أمّا البابا البطريرك، فلم يجد سوى الأتعاب والضيقات فى كل يوم منذ أن حمل مسؤولية الرعاية معتليًا الكرسيّ المَرقسيّ، وبحسب ما رددت كلمات النبوءة من أنه سيَلقَى أتعابًا عظيمة، لكنه لم يتوقف عن خدمته ورعايته لشعبه. وقد ازدادت فى أيامه أعداد الرهبان، وامتلأت الأديرة بالبركات والنعم. وقد ذُكر عن «البابا يوساب الأول» أنه كان مداومًا على الصلوات ليلاً ونهارًا، ممتلئًا رحمة وتواضعًا وسلامًا، مكثرًا فى تقديم الصدقات. وقد سمَح الله بانتقاله من هٰذا العالم، عام 849م، بعد سابع يوم من اعتلاله بحمى. عاصر «البابا يوساب الأول» أربعة خلفاء هم: «المأمون»، و«المعتصم»، و«الواثق»، و«المتوكل». وقد تحدثنا فى مقالات سابقة عن كل من «المأمون» و«المعتصم».
الخليفة «هارون الواثق بالله» (227-232هـ) (842-847م)
هو أبو جعفر هارون الواثق بالله بن المعتصم، وقد بايعه الناس بالخلافة عقب وفاة أبيه ليصبح تاسع خلفاء «الدولة العباسية». اختلف المؤرخون فى وصف شخصيته إلى حد كبير وصل إلى التناقض: فقد وصفه بعضهم بالاستبداد وبالعجز وبضعف الإرادة وبسوء الإدارة، مستشهدين على استبداده بموقفه من الكُتاب والوُلاة عندما اتهمهم بالخيانة وصادر أموالهم التى بلغت مليونَى دينار! فيذكر أحدهم: «ودل ذٰلك على ما وصلت إليه الدولة من سوء الإدارة المالية، وانتشار الرَُِشوة بين طبقات الموظفين والعمال، وجشع الوُزراء والوُلاة.»؛ فى حين وصفه البعض الآخر بالحزم وبالعرفان وبمحبته للأدب وللشعر وللموسيقى، وباتساع المعرفة، وبأنه رجل مِعطاف على أهل بيته كثير الإحسان إلى درجة تفوق حدود التخيل، مِقدام وشجاع فى الحُروب التى كثيرًا ما كان يخوضها بنفسه قائدًا جُيوشه.
ثوْرات
سار «الواثق» على خطى عمه «المأمون» وأبيه «المعتصم» تجاه المسائل الدينية، إلا أنه واجهته مقاومات شديدة وثوْرات؛ فقد اشتدت المعارضة ضده فى «بغداد» وكان على رأسها الفقيه «أحمد بن نصر ابن مالك بن الهيثم الخُزاعِيّ» الذى حظِيَ بتأييد عدد كبير من أهل البلدة. ظلت الأمور فى تفاقم شديد حتى اتفق الثائرون على التظاهر فى يوم حددوه، وقد قرروا إعلان سقوط الخليفة؛ لٰكن أمر ذٰلك اليوم قد اكتُشف وعلِم به «الواثق» فأمر بإلقاء القبض على «أحمد بن نصر» ومن معه من الزعماء واقتيدوا إليه فى «سامراء». وفى محاكمة «أحمد بن نصر»، لم يهتم الخليفة بمناقشته فيما نُسب إليه من المعارضة والخروج عليه، بل اهتم بإظهار الاختلاف فى الأمور الدينية، وحكم عليه بالموت من قِبل الحاضرين، فقام «الواثق» وقتله بنفسه. كذٰلك علِم «الواثق» باختلاف أحد علماء «مِصر» «أبى يعقوب بن يوسُف بن يَحيَى» معه فى العقيدة؛ فأمر بسَجنه فى «بغداد» حيث ظل حبيسًا حتى وفاته عام 231هـ (846م). ويذكر المؤرخون: «هٰذا وقد استمرت هٰذه الاضطهادات الدينية طوال حكم «الواثق»، ولٰكنها أُبطلت فى عهد «المتوكل» ـ الذى حكم بعد «الواثق»ـ فإنه أمر برفع المحنة، وبأن يُترك الناس وشأنهم فيما يعتقدون؛ وقد حمِد الناس له هٰذه المكرُمة وذٰلك التسامح وأثنَوا عليه ثناءً عظيمًا…».
وبين عامَى 230 و232هـ (845 و847م)، قامت فى عدد من البلاد التابعة «للدولة العباسية» ثوْرات بسبب أعمال السلب وقطع الطريق بين مكة والمدينة من قِبل بنى سليم من قيس عيلان، وقد أرسل حاكم المدينة قواته لمقاتلتهم، لٰكنهم هُزموا وقُتل قائد القوات وهو ما شدد من شوكة قاطعى الطريق وعظَّم من أمرهم. فأرسل »الواثق« أحد قواده ويسمى بُغا الكبير فقاتل بنى سليم قتالاً عنيفًا حتى انتصر عليهم، وأمَّن من طلب الأمان، وقبض على الأشرار المفسدين وسجنهم. ثم حارب الواثق «عرب» بنى هلال، وبنى مرة وفزارة وغيرهم من الثوار والخارجين على الدولة بأعمال الشر، حتى هدأت الأمور فى سوريا وبلاد العرب وغيرها من البلاد التى شهِدت ثوْرات. وفى أثناء ذٰلك، حاول المسجونون الهرب من السجن ولٰكنهم وجدوا مقاومة من أهل البلدة؛ ثم قام عليهم عبيد الأشراف وقتلوا أولٰئك السجناء جميعًا.
حروب
استمرت الحرب بين الدولتين العباسية والبيزنطية، دون توقف، حيث كان أحد الجانبين يقوم بأسر عدد من الفريق الآخر ثم يجرى تبادل الأسرى فى أوقات الهدنة؛ وقد وقع تبادل الأسرى بين الفريقين فى عهد الخليفة هارون الرشيد، ثم عهد الواثق.
تُوُفِّى الخليفة الواثق عام 232هـ (847م)، بعد أن دام حكمه قرابة خمس سنوات وتسعة أشهر؛ ويذكر المؤرخون أن بموته انتهى عصر الدولة العباسية الذهبيّ إذ أخذ نفوذ الأتراك فى الازدياد جدًّا وقوِيَت شوكتهم فى جميع أمور الدولة.
و… وفى مِصر الحلوة الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسىّ