استكملنا فى المقالة السابقة «وهكذا انتهت الحروب…» لقطات من حياة «البابا يوساب الأول» (الثانى والخمسين فى بطاركة «الكرسى المَرقسى») إلى أن سمح الله بانتقاله من عالمنا عام 849م. ثم تحدثنا عن الخليفة «هارون الواثق بالله» تاسع خلفاء «الدولة العباسية» والذى استمر حكمه قرابة خمْس سنوات وتسعة أشهر. ويُذكر أن فى تلك الفترة أخذ نفوذ الأتراك فى الازدياد جدًّا وقوِيَت شوكتهم فى جميع أمور الدولة وإدارة شؤونها حتى لقب المؤرخون العصر التالى (232- 334هـ/ 847- 946م) بالعصر التركى.
شهِد ذلك العصر، الذى استمر قرابة قرن من الزمان، قبضة الأتراك على جميع شُؤون الدولة: فقد كانوا يولُّون من يريدون أن يعينوه ويستبعدون من الخلافة من لا يريدونه، كما كانت لهم السيطرة على جميع أمور الدولة الإدارية وشُؤونها المالية والعسكرية، وقد أدى ذلك إلى استعانة أفراد العائلة الملكية بالأتراك من أجل الوصول إلى الحكم فازدادت القلاقل والدسائس ما كان سبب ضعف الدولة العباسية وانهيارها، وكذلك انتشرت أيضًا فى ذلك الزمان الفتن والاضطرابات فى أنحاء الدولة. وكان أن تولى الحكم فى تلك الأثناء اثنا عشَر خليفة: كان أولهم «جعفر المتوكل على الله» ابن «المعتصم»، وآخرهم «إبراهيم المتقى لله» ابن «المعتمد»، وقُتل منهم بحسب ما ذكر أحد المؤرخين اثنان، وخُلع خمسة، وتُوُفِّى الباقون.
أمّا عن أحوال «مِصر» وحكامها فى زمن «الواثق»، فقد تحدثنا عن «على بن يَحيَى الأرمنى» (226- 228هـ/ 841- 843م) الذى كان نائبًا عن القائد «أشناس»، فقد حكم «مِصر» السنوات الأخيرة من حكم الخليفة «المعتصم» وأيضًا فى زمن ابنه «الواثق» الذى أقره هو أيضًا على حكم «مِصر»، ولكن لم يدم الحال طويلًا، إذ قام «الواثق» بعزل «على بن يحيى» ووضع «عيسى بن منصور» بدلاً منه ليحكم «مِصر» مدة ثانية.
«عيسى بن منصور» (228- 233هـ/ 843- 847م) ـ المدة الثانية
هو «عيسى بن منصور بن موسى بن عيسى الرافقى». تولى حكم «مِصر» المرة الثانية بعد عزل «على بن يَحيىَ الأرمنى» النائب عن الأمير القائد «أشناس» التركى. حضر إلى «مِصر» فى بَدء عام 229هـ (843م)، ونزل بمساكن الأمراء، ولم يلبث قليلًا، تُوُفِّى الأمير «أشناس» عام 230هـ (844) وكان قد مُنح حكم «مِصر» من الخليفة «المعتصم» الذى منحه السلطة والصلاحية أن يولِّى على حكم «مِصر» كيفما يشاء. ولَّى الخليفة «الواثق» الأمير «إيتاخ التركى» على حكم «مِصر» بعد موت الأمير «أشناس»، وقد أقر «إيتاخ» حكم «عيسى بن منصور»، وهكذا استمر حكمه نائبًا عن الأمير «إيتاخ» حتى وصل خبر وفاة الخليفة «هارون الواثق» عام 232هـ (847م) وآلت أمور الحكم ومقاليده إلى أخيه «المتوكل».
أرسل «المتوكل» إلى «عيسى» طالبًا أن يأخذ البَيعة له من المِصريين، وما إن أتم ذلك حتى عزله عن حكم «مِصر» ووضع الأمير «هَرثَمة» بدلًا عنه، فكانت فترة حكم «عيسى بن منصور» أربع سنين وثلاثة أشهر ونصف الشهر تقريبًا، ويذكر بعض المؤرخين عنه: «وكان أميرًا، جليلاً، عارفًا، عاقلاً، مدبرًا، سيوسًا (يسوس الناس بحنكة)، وُلى الأعمال الجليلة، وطالت أيامه فى السعادة. وهو ممن وُلى إمرة (مِصر) أولاً عن الخليفة، والثانية عن الأمير (أشناس) التركى»، وقد شهدت مدة حكمه بعض الوقائع، منها: مصادرة الخليفة «الواثق» أموال كُتاب الدواوين وعماله وسَجنهم- كما ذكرنا سابقًا، وتوليته الأمير «إيتاخ» حكم «اليمن» (مضافًا إلى «مِصر») فأرسل إليها نوابه، ووقوع زلازل كثيرة بـ«الشام» أدت إلى موت جموع غفير من البشر تحت أنقاض المنازل التى تهدمت.
الخليفة «المتوكل» (232-247هـ/ 847-861م)
هو «جعفر المتوكل على الله»، عاشر خلفاء الدولة العباسية. تولى أمور «الدولة العباسية» بعد موت أخيه «الواثق». كثير من المؤرخين يذكر أن «الواثق» لم يجعل «المتوكل» قريبًا منه فى أيام خلافته إذ لم يكُن راضيًا عنه، حتى إنه أوكل لرجلين بمراقبة أخيه «المتوكل» وإبلاغه بجميع حركاته وأعماله. إلا أنه مع موت الخليفة «الواثق» قبل أن يعهد بالخلافة إلى أحد، اجتمع كبار رجال الدولة فى حضور القواد الأتراك للنظر فى أمر اختيار الخليفة، وبعد مباحثات اقترح البعض تولية الحكم لابن الخليفة «الواثق»، ولكن القواد الأتراك رفضوا لصغر سنه، فاقترح أحدهم اسم «جعفر» ابن «المعتصم» فاستقر الأمر على توليته وأحضروه وسلموه أمور البلاد. وقد اختلفت آراء المؤرخين فى شخصية «المتوكل» فمنهم من ذمه ومنهم من امتدحه، لكنهم اتفقوا على أن عصره كان هو الزمان الذى بدأ فيه اضمحلال «الدولة العباسية» وضعفها إذ ترك أمور البلاد لقواده وكُتابه.
ذكر عنه ممتدحوه: «وكان (المتوكل) فيه كل الخصال الحسنة إلا ما كان فيه من الغضب. وقد افتتح خلافته بإظهار السُّنَة ورفع المحنة.. وكان (المتوكل) فاضلاً فصيحًا.. كريمًا..».
وفى المقابل، يذكر عنه أحدهم: «ولقد كان (المتوكل) قاسى القلب، ظالمًا، حتى أطلق عليه المؤرخون اسم «نيرون المسلمين»!! كما أن الأحوال قد ساءت فى عصره بشكل كبير، إذ انتشرت الرشوة بين الوُلاة والموظفين. ولكن فى ظل تلك الأحوال، نجد أنه قد أوقف الاضطهاد العقيدى ضد المسلمين الذى كان فى أيام الخلفاء السابقين له، ولكنه اضطهد الطوائف الأخرى، وأبعدهم عن وظائف الدولة، وطاردهم مطاردة عنيفة، وألزمهم فى 235هـ (850م) أن يَلبَسوا لُباسًا خاصًّا بهم، ومن كان عندهم من العبيد، وحرّم عليهم رُكوب الخيل، وأن يضعوا على واجهات منازلهم صورة لـ(إبليس)!! وألا ترتفع قبورهم عن سطح الأرض، وألا يُرسِلوا أولادهم إلى مدارس المسلمين، وأمر بتهديم الكنائس التى كانت قد بُنيت حديثًا فى أنحاء الدولة، وحرّم على المسلمين أن يعلِّموا أولاد (النصارى) أو (اليهود)، وكتب بذلك منشورًا عامًّا أرسله إلى عُماله فى الآفاق، وكان ذلك بين سنتى 235 و239هـ (850 و854م)».
أحوال الدولة
تعدد الوُزراء الذين استوزرهم الخليفة «المتوكل»: فبعد شهرين من بَدء حكمه، أمر بالقبض على الوزير الأول فى الدولة «مُحمد بن عبدالملك الزيات» المستوزَر فى عهد أخيه الخليفة «الواثق»، وصادر جميع أمواله وممتلكاته هو وأهل بيته، وعذبه عذابات شديدة حتى مات ميتة بشعة، كذلك استوزر «أحمد بن خالد» ثم غضِب عليه وأخذ منه كثيرًا من الأموال. ويُذكر أيضًا أن «المتوكل» قد قام بتعيين «يَحيَى بن أكثم» فى منصب قاضى القضاة بعد أن غضِب على «أحمد بن داوود وابنه» وصادر أملاكهما وأملاك الأسرة جميعها وحبسهما إلى أن ماتا فى سجنهما. و… و… وفى «مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسىّ