تحدثنا في المقالة السابقة “الخليفة المتوكل” عن العصر التركيّ الذي استمر قرابة قرن، حاملاً معه قبضة الأتراك على أمور “الدولة العباسية” الإدارية والمالية والعسكرية، إضافة إلى دورهم في تعيين خلفائها وخلعهم. وقد بدأنا الحديث عن أول خلفاء ذٰلك العصر: الخليفة “المتوكل” (232-247هـ) (847-861م) عاشر خلفاء “الدولة العباسية” الذي اختلفت آراء المؤرخين في شخصيته، وذكرنا بعض أحوال الدولة في أثناء حكمه.
“المتوكل” والقائد “إيتاخ التركيّ”
كان “إيتاخ” من أعاظم القواد في “الدولة العباسية”، وهو الذي قام بمحاصرة “عَمُورية” في أيام “المعتصم”، وهو أيضًا الذي قضى على ثورة “بَابَك الخُرَّميّ” التي استمرت زمنًا طويلًا بلغ عشرين عامًا؛ ما جعل لـ “إيتاخ” نُفوذًا كبيرًا وسلطانًا عظيمًا في “الدولة العباسية” أدى إلى شعور الخليفة “المتوكل” بالقلق والرغبة في التخلص منه. كما ذكر البعض أن من أسباب غضب الخليفة “المتوكل” ورغبته في التخلص من القائد “إيتاخ” أنه تطاول على “المتوكل” في أحد مجالسه فحنق الخليفة عليه ووضع في نفسه أمر التخلص منه ـ إلا أن ذٰلك لم يكُن أمرًا هيّنًا في “سامَرّاء” وهو بين جنوده ورجاله.
اهتم الخليفة “المتوكل” في أثناء تدبير أمر التخلص من “إيتاخ” أن لا يبدو ذلك واضحًا، فذُكر أنه: “ولّاه إمارة كل بلد يدخله، وخلع عليه خلع الشرف، وركب معه جميع القواد حتى اطمأن القائد التركيّ إلى جانب «المتوكل».”، ثم دبر “المتوكل” أمر إبعاده عن المدينة. وبينما “إيتاخ” في “بغداد”، إذ يُلقي رئيس الشرَْطة القبض عليه، بعد أن أبعد عن “إيتاخ” غلمانه ورجاله، ويقيده ويرميه في السجن، وظل به بضعة أشهر، ممنوعًا عنه الماء، حتى مات عطشًا عام 235هـ (850م)؛ ثم أمر الخليفة بالقبض على أبنائه ووضعهم بالسُّجون، فظلوا قابعين بها حتى مات “المتوكل”.
“العَلَويُّون”
كان “المتوكل” يحمل كراهية شديدة تجاه “عليّ بن أبي طالب” وأهل بيته، كما كان هناك من يؤجج تلك المشاعر من بين جلساء الخليفة إذ أشاروا عليه بإبعاد العَلَويِّين والإساءة إليهم، فازداد حنقه حتى إنه أمر في عام 237هـ (852م) بهدم قبر “الحُسين بن عليّ” في “كَرْبَلاء” وما يجاوره من منازل، وأن يحرث ويبذر ويسقى مكان القبر؛ كما منع الناس من زيارة ذٰلك المكان، مهددًا إياهم بالسَّجن، فامتنعوا إلا أن صُدورهم كانت ممتلئة بغضب عارم تجاه الخليفة “المتوكل”.
اضطرابات وفتن
انتشرت الفتن والاضطرابات في أنحاء “الدولة العباسية” وقت حكم “المتوكل”؛ فاندلعت الثوْرات في “سَجَسْتان” و”أَذِرْبَيچان” و”مِصر” و”أرمينيا” و”سوريا” و”اليمن”.
“أَذِرْبَيچان”
شهِدت “أَذِرْبَيچان” ثوْرات على الخليفة “المتوكل”، قادها شخص يُدعى “مُحمد بن البُعَيث بن حَلْبَس”، لم تُخمد إلا بعد حروب كثيرة فُقد فيها كثير من القتلى من “العباسيِّين”، وكلفت “المتوكل” أموالاً طائلة. ومع بَدء القتال، تحصن “مُحمد بن البُعَيث” بمدينة “مَرَنْد” في “أَذِرْبَيچان”، فأرسل الخليفة “المتوكل” عددًا من حملات الجيش للقضاء عليه وإخضاعه؛ إلى أن أرسل عددًا من قواده بقيادة “عمرو بن سيسل بن كال” فتمكنوا أخيرًا من أسره هو وبعض أنصاره وقتل عدد كبير منهم؛ وقد أمر “المتوكل” بحبسهم، ثم بقتْل “ابن البُعَيث”، لٰكنه عاد وعفا عنه أخيرًا.
“مِصر”
أمّا “مِصر”، فقد اختل بها الأمن وسادتها الاضطرابات: فقد هبت غارات “البيزنطيِّين” على الوجه البحْريّ ووصلوا إلى “الإسكندرية” واحتلوها زمانًا طويلاً، وهجمت اعتداءات كثيرة على مدن الوجه القبليّ وقراه؛ فأرسل “المتوكل” جيشًا لإخماد تلك الثوْرات، فلاقى كثيرًا من الأتعاب حتى استطاع بعد جَهد كبير إخمادها في عام 241هـ (856م) ـ وسنعود إلى تفاصيل تلك الأحداث في حينها.
“أرمينيا”
وفي “أرمينيا” شبت ثوْرات عظيمة ضد والي الخليفة “يوسُِف بن مُحمد” وخرج عليه أهلها، فوقعت حروب مريعة حتى قُتل الوالي ومعه كثير من أتباعه؛ فلما وصلت تلك الأخبار إلى “المتوكل” أرسل إليهم قائده التركيّ “بغا الشرابي” فحارب أهل “أرمينيا”؛ ويذكر المؤرخون أنه قتل منهم قرابة ثلاثين ألف نسمة غير أولٰئك الذين سباهم وكانوا كثيرين. كذٰلك زحف القائد التركيّ على مدينة “تِفْلِيس” لمحاربة أميرها “إسحاق بن إسماعيل” الذي ثار على “العباسيِّين” وأعلن استقلاله عن “الدولة العباسية”، فحوصرت المدينة حتى قام “بغا” بحرقها بسكانها، فقتل قرابة خمسين ألفًا، وقبض على “إسحاق” ذٰلك وقتله. ثم توجه “بغا” إلى عدد من مدن “أرمينيا” لإخماد ثوْراتهم، وبعد الانتصار عليهم عاد إلى “سامَرّاء” ومعه عدد كبير من الأسرى، ويُذكر أنهم قُتلوا بأمر من الخليفة بعد أن رفضوا تغيير دينهم.
“سوريا”
أمّا الأحوال في “سوريا”، فلم تكُن أفضل حالاً من غيرها، إذ اندلعت بها الثوْرات في “حمص” بين 240 و241هـ (855 و856م) حيث قام الثوار بطرد الحاكم. فأرسل الخليفة إلى جنوده في “دمَِشق” و”الرملة” بالتوجه إلى “حمص” لوأد الثوْرات، وقد نجحوا في ذٰلك كما يذكر أحد الكاتبين: “ونجحت الجُيوش في إخماد الفتن، وعاقبت المَسيحيِّين الذين اشتركوا في الثورة عقابًا صارمًا، وهدَّمت كنائسهم وأخرجتهم من المدينة.”؛ وبعد ذٰلك رغِب “المتوكل” في أن يكون قريبًا من “السوريِّين” فقرر ترك “سامَرّاء” وتوجه إلى “دمَِشق” لتكون مقرًّا له فوصل إليها عام 244هـ (859م)، وبدأ في بناء المصالح الحكومية، وضاحية جديدة أطلق عليها اسم “الجعفرية” احتوت على قصر له سماه “اللؤلؤة”، ولٰكنه لم يجد راحة في “دمَِشق” بسبب تأثير مُناخها في صحته فعاد إلى “سامَرّاء” مرة ثانية.
“اليمن”
اضطربت أحوال “اليمن” كثيرًا منذ زمن الخليفة “المأمون”؛ فأرسل إليها “مُحمد بن إبراهيم” على رأس الجيوش لإخضاعها، ثم وضعه “المأمون” لحكمها. وتناقل حكم “اليمن” أبناء “مُحمد بن إبراهيم” من بعده فصار حكمها إلى” آل زياد”. إلا أنه في نهاية حكم “المتوكل”، قام بـ”صنعاء” حكم جديد سُمي “حُكم الدولة اليُعْفِرية” التي أسسها “يُعْفِر بن عبد الرحيم” الذي كان نائبًا عن “آل زياد” في “صنعاء” ثم استقل بحكمها عام 247هـ (861م)، ثم أبناؤه حتى عام 387هـ (997م).
الأحوال الخارجية
لم تتوقف الحرب بين الخلفاء العباسيِّين وملوك “الروم” فكانت إغارات كل طرف على ممتلكات الطرف الآخر لا تتوقف: فقد أغار “الروم” على “مِصر” عام 238هـ (853م) حتى وصلوا إلى “دِمياط”، فقام “العباسيُّون” بالإغارة على ممتلكات “الروم” في “آسيا الصغرى”؛ وفي عام 241هـ (856م) حدث تبادل للأسرى بين الطرفين. وظلت الأمور هٰكذا بين الدولتين.
و … وفي “مِصر الحلوة” الحديث لا ينتهي …!
الأُُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأرثوذكسيّ