يقولون: «التاريخ يعيد نفسه»، ويقول آخَرون: «التاريخ لا يعيد نفسه، ولكن الإنسان هو من يكرر أخطاءه!»، وقد رأينا ذٰلك فى المقالة السابقة عندما قام الخليفة «المتوكل» بتقسيم الدولة بين أبنائه الثلاثة، مع نهاية عام 235هـ (850م)، فى تكرار خطأ قام به من قبله جَده «هارون الرشيد» وما نتج عنه من صراع بين «الأمين» و«المأمون». لكنّ الأمر كان أشد حدة مع «المتوكل» بسبب انقلاب «الأتراك» عليه، ليلتفوا حول ابنه «المنتصر» محرضين إياه على التخلص من أبيه، وقد تم لهم ذلك. وقد تحدثنا عن بعض حكام «مِصر» فى تلك الحِقبة، وهم: «هَرْثَمة بن نصر»، «حاتم بن هَرْثَمة» الذى عُزل وتولى بدلاً عنه «علىّ بن يَحيَى الأرمنىّ» على «مِصر» مرةً ثانية.
«علىّ بن يَحيَى الأرمنىّ» (234- 235هـ) (849-850م) الولاية الثانية
تولى «علىّ بن يحيى» حكم «مِصر» من قِبل القائد «إيتاخ». وسكن فى مساكن الأمراء بمنطقة «العسكر». وبينما هو فى الحكم، وصله خبر القبض على القائد «إيتاخ» من قِبل «المتوكل»، وجاءته الأوامر بمصادرة أمواله فى «مِصر»، فقام «علىّ بن يَحيَى» بمصادرة أموال القائد «إيتاخ». أما «مِصر» فقد ولَّى «المتوكل» ابنَه «المنتصر» أمورها وأعمالها وأصبح تعيين من يحكمونها من قبل «المنتصر» بدلاً من «إيتاخ» الذى حكم «مِصر» أربع سنوات.
أقرّ «المنتصر» حكم «علىّ بن يَحيَى» زمنًا لم يدُم طويلاً إذ عزله ووضع «إسحاق بن يَحيَى بن معاذ» بدلاً منه. وقد كانت مدة ولاية «علىّ بن يَحيَى» سنة وثلاثة أشهر إلا بضعة أيام، وفى سنة حكمه: قسّم «المتوكل» حكم البلاد بين أبنائه الثلاثة، وكتب إلى حكام البلاد بإلزام «المَسيحيِّين» و«اليهود» بلبس ثياب باللون العسلىّ لتكون ملابسهم مختلفة عن ملابس المسلمين. وقد ذكر المؤرخ «التَّغرى» أن الخليفة «المتوكل» قد أرسل إلى حكام البلاد أوامره أن: يَلبَس «النصارى» و«اليهود» ثياب العَسَلى، وألا يمكَّنوا من لُبس البياض كى لا يتشبهوا بالمسلمين، وأن تكون رُِكُبهم (ما توضع فيه الأرجل عند رُكوب السَّرج) خشبًا، وأن تهدَّم بِيَعهم المستجَدة، وأن تُطلَق عليهم الجزية، ولا يُفسح لهم فى دُخول حمامات خَدَمُها من المسلمين، وأن تُفرد لهم حمامات خَدَمُها من «أهل الذمة»، وألا يستخدموا مسلمًا فى حوائجهم، وأفردهم (نحاهم وعزلهم) بمن يحتسب عليهم (بمُحتَسِب أقامه عليهم ليؤاخذهم ويحاسبهم حين لا ينصاعون)، وأمر بأن يُكتب بذلك كله كتاب. كما ذكر «ابن الأثير» فى تلك الأمور: «وفى هذه السنة (يقصد عام 235هـ/ 850م)، أمر «المتوكل» (أهل الذمة) بلُبس الطَيالِسَة (الطَيْلَسان: ما يُعرف فى العامّية بـ«الشال») العسلية، وشد الزَّنانير (الزُّنار حزام يشُده النَّصرانىّ على وسَطه)، ورُكوب السُّروج بالرُكُب الخشب، وعمل كُرَتين فى مؤخَّر السُّروج، وعمل رُقعتين على لِباس مماليكهم: مخالفتَين لون الثوب، كل واحد منها قدْر أربع أصابع، ولون كل واحدة منها غير لون الأخرى، ومن خرج من نسائهم تَلبَس إزارًا (ثوبًا محيطًا بالنصف الأسفل) عَسَليًّا، ومنعهم من لِباس المناطق (المِنطَقة: ما يُشد به الوسَط)، وأمر بهدم بِيَعهم (كنائسهم) المُحْدَثة (الحديثة)، وبأخذ العُشر من منازلهم، وأن يُجعل على أبواب دُورهم (مساكنهم) صور شياطين من خشب!! ونهى أن يُستعان بهم فى أعمال السلطان، ولا يعلِّمهم مسلم، وأن يُظهروا فى شعانينهم صليبًا، وأن يُستعمَلوا فى الطريق، وأمر بتسوية قُبورهم مع الأرض، وكتب فى ذلك إلى الآفاق».
«إسحاق بن يَحيَى» (235- 236هـ) (850- 851م)
ويُدعى «إسحاق بن يَحيَى بن معاذ بن مسلم الخَتْلِى»، وقد تولى حكم «مِصر» بعد عزل «علىّ بن يَحيَى» من قبل «المنتصر» ابن الخليفة «المتوكل»، وقد تولى حكم «دمَِشق» مدة طويلة قبل ذلك. ويذكر عنه المؤرخون، ومنهم «التَّغرى»، أنه كان كريمًا شجاعًا عادلاً مترفقًا بالناس محبًّا للشعر. وحدث فى مدة حكمه أن ورده أمر الخليفة «المتوكل» بإخراج الأشراف «العلويِّين» من «مِصر» إلى «العراق» فأخرجهم، وكان ذلك بعد هدم قبر «الحسين»- كما ذكرنا سابقًا. وقد ذكر «الكِنْدى» و«المقريزى» أن «إسحاق بن يَحيَى» عندما أخرج «العلويِّين» من «مِصر» كان مترفقًا بهم: ففرق عليهم أموالاً معطيًا كل شخص منهم ثلاثين دينارًا والمرأة خمسة عشَر دينارًا، وقدَّم لهم الثياب، وكان ذلك فى عام 236هـ (851)م. ولم تطُل مدة حكم «إسحاق بن يَحيَى» على «مِصر» إذ عزله «المنتصر» بعد قُرابة عام إلا بضعة أيام، وولى مكانه «عبدالواحد بن يَحيَى».
«عبدالواحد بن يَحيَى» (236- 238هـ) (851- 853م)
هو «عبدالواحد بن يَحيَى بن منصور»، تولى حكم «مِصر» من قِبل «المنتصر». وكان مسؤولاً عن الصلاة بالناس وجمع الضرائب. ولكن فى عام 236هـ (851م) عُزل عن جمع الضرائب، وفى العام نفسه وردت إليه رسالة الخليفة «المتوكل» بإهانة «أبى بكر مُحمد بن أبى الليث» قاضى قضاة «مِصر»- وكان من «الخوارج»- بحلق لحيته وبضربه وبالطوفان به على حِمار ثم سَجنه. استمر «عبدالواحد» فى حكم «مِصر» حتى عزله «المنتصر» بعد قرابة عام وثلاثة أشهر وبضعة أيام، ووضع بدلاً منه «عَنْبَسة بن إسحاق». وفى مدة حكمه، اندلعت ثورة «أرمينيا» على الخليفة. وقيل إن فى إحدى الليالى حدث أن ظهرت نار فى «عسقلان» أحرقت البُيوت والبيادِر، وفزَِع الناس وهربوا.
«عَنْبَسة بن إسحاق» (238- 242هـ) (853- 857م)
هو «عَنْبَسة بن إسحاق بن شَِمَّْر بن عيسى»، وهو من أهل «خُراسان»، ولاه «المنتصر» حكم «مِصر» بعد عزل «عبدالواحد»، وكان فى ذلك الوقت «أحمد بن خالد الصَّرِيفِينِى» هو المسؤول عن جمع الضرائب. واختلف رأى المؤرخين فى «عَنْبَسة» اختلافًا شديدًا: فقد كان هناك من يذكُر أنه كان يتبع مذهب «الخوارج»، ومن يرفض ذلك إذ ذكر عنه «التَّغرى»: كان «عنبسة» خارجيًا، يتظاهر بذلك، ولما ولى «مِصر» أنصف الناس غاية الإنصاف. كما قال عنه «ابن حزم»: لم يَلِ (لم يحكم) «مِصر» لـ«بنى العباس» مثله. كان من أعدل الناس. يُتهم بمذهب «الخوارج» لشدة عدله وتحرِّيه للحق. وهو آخر عربى ولى «مِصر»، وآخر أمير صلى بالناس وخطب.
ويذكر المؤرخون أنه فى عام 238هـ (853م) مع بَدء حكم «عَنْبَسة»، أغار «الروم» على «دِمياط» فى عدد كبير من المراكب- قيل ثلاثمئة تقريبًا- ووجدوا المدينة خالية من الجنود فقتلوا وسبَوا ونهبوا، ولكن حاربهم أهل «دِمياط» برئاسة شخص يُدعى «أبا جعفر بن الأكشف» حتى هزموهم، فغادروا «دِمياط» إلى «أشموم تنيس» فلم يتمكنوا منها، فعادوا إلى بلادهم. و… وعن «مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسىّ