استكملنا فى المقالة السابقة حكم «عَنْبَسة بن إسحاق» على «مِصر» وما شهِد زمانه من إغارات الروم وقلق مُثار فى الصَّعيد الأعلى، وتولية أمور «مِصر» «للفتح بن خاقان» بدلاً من «المنتصر» ابن الخليفة «المتوكل»، ومن بعده تولى حُكمها «يزيد بن عبد الله».
«يزيد بن عبد الله» 242هـ (758م)
هو «يزيد بن عبد الله بن دينار»، تركىّ الأصل، تولى شُؤون «مِصر»- من بعد عزل «عَنْبَسة»- ما يزيد على عشْر سنوات وهى أطول مدة حكم شهدتها «مِصر» فى العصر العباسىّ. ويذكر المؤرخون أن «يزيد» هو أول من منع النداء على الجنائز آمرًا بضرب البعض بسبب ذلك الأمر، وأبطل الرهان الذى كان لسباق الخيل فى «مِصر» آنذاك، فيذكر «الكِنْدى»: [وأمر «يزيد» فِى «شوَّال» ببيع الخيل التى تُتخذ للسُلطان وعطّل الرِّهان، فلم تجرِ إلى سنة تسع وأربعين].، ويذكر «التَّغْرى» أنه عامل «الروافض» (اسم أُطلق على «الشيعة») و«العَلَويِّين» بقسوة وشدة، فيقول: [ثم تتبع «الروافض» وأبادهم، ثم التفت إلى «العَلَويِّين» فجرت عليهم منه شدة وأخرجهم من «مِصر»]، وقد ذكر «الكِنْدىّ» رواية تقول إن «يزيد» أمر بضرب جندىّ لخطأ ارتكبه عشْر جَلَدات، فاستحلف الجندىّ «يزيد» بحقّ «الْحَسَن» و«الحسين» أن يعفو عنه، فما كان منه إلا أن زاد عدد ضرباته إلى الثلاثين! وعندما وصل الأمر إلى الخليفة «المتوكل»، كتب إلى «يزيد» أن يَضرِب ذلك الرجل مائة ضربة!! ففعل ذلك وأرسل الجندىّ إلى «بغداد».
ومن أمره أيضًا أنه بلغ إليه نزول «الروم» إلى «دِمياط»، فترك «مِصر» («الفسطاط»)، وأقام فى «دِمياط» زمنًا لم يشهد أىّ حُروب فعاد إلى «مِصر» التى ما أن وصل إليها حتى بلغه أن «الروم» نزلوا إلى«دِمياط»، وقد اختلف المؤرخون فى ذلك: فمنهم من ذكر أنها كانت «دِمياط»- مثل «التَّغْرى»، ومنهم من ذكر أنها «الفَرَما» فى «سيناء»- مثل «الكِنْدىّ» و«المقريزى»، فخرج إليهم مرة أخرى لكنه لم يلتقِهم، فأقام هناك زمانًا ثم عاد إلى «مِصر».
ونظرًا إلى أهمية الزراعة فى «مِصر» منذ القدم، كان اهتمام ببناء «مقياس النيل» على مر العصور والأزمان. وانتقل المقياس من «أرض عَلْوة» (مدينة نوبية) إلى «منف»، ثم «أنصنا»، ثم «أخميم». ثم بنى «عمرو بن العاص» مقياسًا بـ«أُسوان». ثم بُنى آخر بـ«أنصنا» فى أيام «معاوية». حتى بُنى مقياس «النيل» فى «حُلوان» بأمر «عبدالعزيز بن مروان»، ثم فى جزيرة «الروضة» أيام «سُلَيمان بن عبدالملك». وفى أيام «المتوكل»، بُنى مقياس «للنيل» أيضًا فى جزيرة «الروضة» فى أثناء ولاية «يزيد بن عبدالله»، وكان بناءً ضخمًا عُرف باسم «المقياس الهاشمىّ» أو بـ«المقياس الكبير»، وذكر «التَّغْرى»: [ثم بنى «المتوكل» فيها (فى الروضة) مقياسًا، فى سنة سبع وأربعين ومائتين (861م)، فى ولاية «يزيد بن عبدالله» هذا، وهو المقياس الكبير المعروف بـ«الجديد». وقَدِم من «العراق» «مُحمد بن كثير الفَِرْغانىّ» المهندس فتولى بناءه، وأمر «المتوكل» أن يُعزل «النصارى» عن قياسه، فجعل «يزيد بن عبدالله» أمير «مِصر» على القياس: «أبا الرداد الفقيه» المعلم…]، وقد تكلف بناء ذلك المقياس كثيرًا من المال والجَهد.
كما يذكر المؤرخون أنه وقع فى عهده عدد من الزلازل المدمرة فى بُلدان عديدة، فيذكر «التَّغْرىّ» أنه فى السنة الثالثة من ولاية «يزيد بن عبدالله» عمت الزلازل «العراق» و«المغرب» و«أنطاكية» و«خُراسان» فأخربت القلاع والمدن والقناطر، وهلك بشر كثيرون، وسُمعت أصوات مريعة من السماء: [وزُلزلت «مِصر»، وسمِع أهل «بلبيس» من ناحية «مِصر» صيحة هائلة، فمات خلق من أهل «بلبيس»، وغارت (ذهبت فى الأرض وسَفَلت فيها) عُيون «مكة»]. وتكرر أمر الزَّلزلة فى السنة السابعة من حكم «يزيد» عام 249هـ (863-864م) أودت بحياة كثيرين. وانتشر الطاعون فى «العراق» وقُتلت أعداد غفيرة من أهلها.
وفى السنة الخامسة من حكم «يزيد» عام 247هـ (861م)، قُتل الخليفة «المتوكل»- كما ذكرنا سابقًا- ومعه وزيره «الفتح بن خاقان»، فتولى الخلافة من بعده ابنه «المنتصر مُحمد» ولٰكنه مات بعد ستة أشهر من توليه. وفى السنة السادسة 248هـ (862م) من حكم «يزيد»، صارت الخلافة إلى «المستعين بالله» ابن عم «المنتصر» إلى أن خُلع من الحكم- كما سيأتى فى مكانه. وآلت الخلافة إلى «المعتز بالله» ابن «المتوكل». وهكذا عاصر «يزيد» فى أثناء حكمه «مِصر» أربعة خلفاء: «المتوكل»، و«المنتصر»، و«المستعين»، و«المعتز».
وفى ظل تلك الاضطرابات فى أمور الخلافة، شهدت «مِصر» فى عام 252هـ (866م) ثورة بـ«الإسكندرية» قادها رجل يُدعى «جابر بن الوليد»، أدت إلى اندلاع حرب بين «يزيد» و«جابر» استمرت زمنًا حيث كان يتفوق كل فريق على الآخر تارة. وعندما لم يتمكن «يزيد» من الانتصار، أرسل طالبًا نجدةً من الخليفة «المعتز بالله» بإرسال جيش لمساندته، فأرسل إليه جيشًا جرارًا يقوده الأمير «مزاحم بن خاقان» انضم إلى جيش «يزيد»، وقامت معارك شديدة انتهت بهزيمة الثائر «جابر بن الوليد» وجنوده. وبعد انتهاء الحرب، عزل الخليفة «يزيد بن عبدالله» وجعل «مزاحم بن خاقان» أميرًا على «مِصر» بدلًا منه.
أمّا عن أمور الكنيسة فى تلك الحِقبة الصعبة التى امتلأت بالاضطرابات فى البلاد بصفة عامة وكانت ضد أصحاب المعتقدات المختلفة بوجه خاص، فإن أبًا من رهبان «دير أبى يُحَنِّس» يُدعى «خائيل» قد رُشح بطريركًا للكنيسة القبطية على «كرسىّ مار مرقس الرسول» بعد نياحة «البابا يوساب الأول» عام 849م.
البابا خائيل الثانى (849م – 851م)
كان بعد انتقال «البابا يوساب الأول» من هذا العالم أن اجتمعت أصوات الجميع على اختيار الأب «خائيل»، فسِيم بطريركًا باسم «خائيل الثانى» ليصير الثالث والخمسين فى بطاركة الإسكندرية. وما إن تولى «البابا خائيل الثانى» أمور الكنيسة فى أيام الخليفة «المتوكل»، حتى تعرض لبعض المضايقات من الوُلاة الذين كانوا يطالبونه بالمال وإلا يُمنع من الجلوس على كرسيّه!! وقد كثرت المضايقات على «البابا خائيل الثانى» حتى إنه اضطر إلى بيع أدوات الكنيسة حتى يُوْفى بالمال المطلوب. كذلك صدرت فى أيامه أوامر الخليفة «المتوكل» بإلزام «المَسيحيِّين» و«اليهود» بلُبس ثياب باللون العسلىّ لتختلف عن ملابس «المسلمين»- وقد أشرنا إلى ذلك فى مقالة سابقة.
ولم تطُل رئاسة «البابا خائيل الثانى» على الكرسىّ المَرقسىّ فتنيح عام 851م بعد أن دامت قرابة عام وخمسة أشهر، وقد تولَّى أمور الكنيسة من بعده «البابا قُزمان الثانى»، و… وعن «مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسىّ