تحدثنا فى المقالة السابقة عن حكم «يزيد بن عبدالله» على «مِصر»، الذى عاصر أربعة خلفاء: «المتوكل»، و«المنتصر»، و«المستعين»، و«المعتز». ثم انتقلنا إلى الحديث عن الكنيسة القبطية فى ذلك العصر ورئاسة «البابا خائيل الثانى» البطريرك الثالث والخمسين لها، ونياحته سريعًا بعد أن قضَّى قُرابة عام وخمسة أشهر على «كرسىّ مار مَرقس الرسول»، وقد تولَّى أمور الكنيسة من بعده «البابا قُزمان الثانى».
البابا قُزمان (قُسما) الثانى (851- 859م)
هو البابا الرابع والخمسون فى بطاركة الكرازة المَرقسية. وُلد بـ«سمنود». اختار حياة الرهبنة والتعبد والتوحد فصار راهبًا بـ«دير القديس مقاريوس بوادى النطرون». وعندما انتقل «البابا خائيل الثانى»، اجتمع الآباء الأساقفة والأراخنة ليتشاوروا فى أمر اختيار خليفة له على «كرسىّ مار مَرقس الرسول»: فاجتمعت آراؤهم على اختيار «الراهب قزما» ليكون بطريركًا، فأقاموه رئيسًا على كرسىّ الإسكندرية- وكان ذلك فى أيام خلافة «المتوكل»- حيث كان مقر إقامته أولاً فى «الإسكندرية» ثم «دميرة» و«دنوشر»، وكان سبب انتقال مقره من مدينة «الإسكندرية» إلى «دميرة»: أنه عند اقتراب «عيد الشهيد مار مينا»، اجتمع «البابا قزمان الثانى» وأفراد شعبه الذين حضروا إلى «كنيسة الشهيد مار مينا» لتقديم عطاياهم، فاندس بينهم قوم أشرار أخذوا يَثِبون ويفتعلون مُشادات بعضهم مع بعض أدت إلى قتل أحدهم، فبلغت الأخبار والى «الإسكندرية» «أحمد بن دينار»، فلقبض على البابا البطريرك، وضّيق عليه وعذبه حتى أخذ منه جميع ما قُدم إليه من صدقات!! ثم منعه من مغادرة «الإسكندرية»! بلغت تلك الأخبار رجلين من كبار القِبْط: «مقارة بن يوسف» ويعمل بالديوان الملكىّ وله موضع تقدير لدى كل من يحكم «مِصر»، و«إبراهيم بن ساويرُس» المتولى «بيت المال» واستخراج الأموال ليحملها إلى خزائن الملك، فتقدما معًا إلى والى «مِصر» وطلبا منه استحضار «البابا قزمان الثانى» إلى «مِصر» لأمور تختص بالضرائب، فأرسل لاستدعائه، وهكذا ترك البابا مدينة «الإسكندرية» وأقام فى مدينة «دميرة» شرقىّ «مِصر».
لم تطُل فترة السلام والهدوء حتى شهِد عصر «البابا قزمان الثانى» اضطهادات عنيفة ومزيدًا من القوانين الصارمة ضد المَسيحيِّين، فيذكر المتنيح «القَس منَسَّى يوحنا» فى كتاب «تاريخ الكنيسة القبطية»: «ثم بعد ذلك بأربع سنين، أمروا أن يَلبَسوا دُرّاعَتين (الدُّرّاعة ثوب من صوف) على الدراريع والأقبية (القَباء ثوب يُلبس فوق الثياب أَو القميص ويُتمنطق عليه). ونشر الخليفة أوامره فى كل مكان، فذَلّ الأقباطُ مذلةً عظيمةً ولم يعودوا يرفعون رؤوسهم، وأَسلَم منهم عدد لا يُحصَى، والذين لم يَسلَموا كان كثيرون منهم لا يقوَون على التظاهر بالمَسيحية، وكانوا إذا اجتمعوا للصلاة لا يستطيعون رفع أصواتهم بل يصلون بأصوات ضعيفة…»، وقد مرت أزمنة ازداد فيها غضب الأقباط من تلك الأوامر، فكان الأساقفة يحاولون بذل الجَهد المضنى لتنفيذ الأوامر لأجل سلام البلاد وعدم إراقة الدماء.
ثم صدر بعد ذلك قرار أشد قسوة وهو عدم الاستعانة بالأقباط فى أعمال الحكومة وهو الأمر الذى لأجله رُفت كثيرون، وما كان له أشد الضرر على كثير من العائلات التى أصابها الفقر المُدقِع!! ثم تلت ذلك قرارات أخرى كإبطال الصلاة على كل ميت، وإيقاف الصلوات بالكنائس، واستئصال جميع الكروم من أرض «مِصر» حتى لا تقام صلوات القداس، وقد ذكر المؤرخون أن تلك القرارات قد نُفذت بدقة شديدة، حتى إنه كان من المستحيل إيجاد العنب فى جميع أنحاء القطر المِصرىّ!! فكان الكهنة يحصلون على العنب من خارج «مصر». وكان العنب يجفف ثم يوضع فى الماء، ثم يُعصر قبل أن يختمر ويتممون صلواتهم. وكان عند مهاجمة الروم على «دِمياط» أن ازدادت المضايقات على المَسيحيِّين من الوالى خَشيةً منه وظنًّا أنهم واقفون إلى جانب الروم!! فطالبهم بمبالغ طائلة لا يقوَون على إيفائها، وقام بإغلاق جميع الكنائس إلا كنيسة واحدة فى مَِنطَِقة «الفسطاط» و«بابليون».
وهكذا لحِقت بـ«البابا قزمان الثانى» أحزان كثيرة على رعيته، لكنه لم يتوقف عن رعاية شعبه وتعليم المؤمنين وتثبيتهم بغيرة ونشاط. وتذكر كتب التاريخ الكنسىّ أنه ظهرت فى تلك الأيام بعض الظواهر العجيبة منها: أن دمًا خرج من أيقونة (صورة) «السيدة العذراء» التى فى «كنيسة القديس ساويرُس فى البرّية»، ودُموعًا سالت من أيقونات كثيرة فى سائر بلاد الديار المِصرية!
أيضًا شهِدت أيام ذلك الأب البطريرك بداية «حرب الأيقونات»: فقد أمر قيصر «روما» بنزع الصور ومحوها من الكنائس، فأرسل إليه «البابا قزمان» رسائل يحاججه فيها ويناظره حتى أقنعه بخطأ رأيه فأصدر أوامره بإعادة الصور كما كانت العادة.
انتقل «البابا قزمان الثانى» من العالم بعد أن قضَّى على «كرسىّ مار مَرقس الرسول» سبْع سنين وبضعة أشهر، اختلف المؤرخون فى عددها فقيل إنها أربعة أشهر أو ستة أو سبعة، وقد خلفه «البابا شنودة الأول».
«البابا شنودة الأول» (859- 880م)
هو البابا الخامس والخمسون فى بطاركة الكرازة المَرقسية، وُلد هذا الأب الجليل فى «البتانون» بـ«قرية الثلاثين ربوة». صار راهبًا فى «دير القديس مقاريوس بوادى النطرون» باسم «شنودة»، وقد سلك ببر وتقوى فى حياته الرهبانية. وكان عالمًا تقيًّا فاختير قمصًا على كنيسة الدير. وحدث بعد نياحة «البابا قزمان الثانى» أنه لم تتفق آراء الأساقفة على اختيار من يخلفه، ولكن سُرعان ما اجتمعت آراؤهم متفقين جميعًا على اختيار «الأب شنودة» بطريركًا! وقد حدث أمر عجيب فى ذلك: أن وافق دخول الراهب «القمص شنودة المقارى» إلى الكنيسة فى وقت الصلاة تلاوة الأب الكاهن للكلمات: «مستحق وعادل»!! ففرِح أفراد الشعب بقدومه معتبرين أن السماء تزكيه لتلك المسؤولية الكبيرة، وهكذا اختير بطريركًا للكرازة المَرقسية- وكان ذلك فى أيام الخليفة «المتوكل».
واجهت «البابا شنودة الأول» كثير من الضيقات الداخلية والخارجية، لكنه احتمل الشدائد وصبَر عليها، ولم يتوقف عن تعليم أفراد شعبه ورده عن البدع والهرطقات التى حاولت أن تقتنص أنفسهم بعيدًا عن الإيمان المستقيم.
أتعاب داخلية
ما إن جلس «البابا شنودة الأول» على كرسيّه، حتى بدأ فى الاهتمام برعيته وتعليمهم، ساهرًا على إيمانهم الأرثوذكسىّ المستقيم، فانبرى يرُد على البدع التى حاولت النيل منه: فعلى سبيل المثال أرشد أهالى قرية «بوخنسا» إحدى قرى «مريوط» إلى الإيمان الصحيح وردهم عن قَبول بدعتَى «أبُولِينارْيوس» و«أُوطاخِى»، وأقنع مَسيحيِّى «البَلْيَنا» الخارجين على أُسقفَى تلك المَِنَِطقة بفساد بدعتَى «سابيليوس» و«فوتيوس» وأعادهم إلى الطريق المستقيم، وكان ذلك أثناء تفقده رعيته بالصَّعيد. و… وعن «مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسىّ