تحدثنا فى المقالة السابقة عن «البابا قُزمان الثانى» الرابع والخمسين فى بطاركة الكرازة المَرقسية، وما حدث فى أيامه من اضطهادات عنيفة، وصدور مزيد من القوانين الصارمة ضد المَسيحيِّين، وعدم الاستعانة بهم فى أعمال الحكومة، وافتقار كثير من الأسر، مما أحزن البابا لكنه، مع كل هذه الشدائد، ظل مداومًا على الصلاة من أجل شعبه وإرشاده وتعليمه ورعايته. ثم بدأنا الحديث عن «البابا شنودة الأول» الخامس والخمسين فى بطاركة الكرازة المَرقسية.
«البابا شنودة الأول» (859- 880م)
واجه ذلك الأبَ كثيرٌ من الآلام والأتعاب الداخلية، حيث وقف مدافعًا عن الإيمان الأرثوذكسى المستقيم ومعلِّمًا به، فكتب يرُد على البدع التى حاولت النيل من إيمان رعيته مقنعًا المبتدعين وأتباعهم بالتوبة والعودة إلى ما تسلموه من إيمان قويم نقى.
كتب «البابا شنودة الأول» رسالة عقيدية- كعادة الآباء البطاركة بعد اعتلائهم الكرسى المَرقسى- إلى بطريرك أنطاكية السريانى، تعبّر عن وَحدة الإيمان الأرثوذكسى، وأرسل بها اثنين من الأساقفة والكهنة، فعادا إليه برسالة من البطريرك الأنطاكى تحمل تأكيد وَحدة الإيمان.
اهتم «البابا شنودة الأول» بالكُتب الروحية التى تعلم الشعب طقوس الكنيسة، كما اهتم بالوعظ وشرح الهرطقات والأفكار الإيمانية المغلوطة للشعب، وتوضيح قرارات «مجمع خلقيدونية» التى تخالف التعليم الأرثوذكسى. وحدث أن أسقفَى «سمنود» و«منية طانة» كانا قد انحرفا عن إيمانهما وتعاليمهما، فحاول البابا أن يعيدهما إلى الطريق المستقيم، لكنهما رفضا نصائحه فى لقاء بينهم فى «دير أبى مقار»، وانتهت حياتهما شر نهاية بعدئذ بقليل. وفى إحدى زياراته الرعوية بالصَّعيد، وجد البابا رجلاً مسنًّا يرفض تعاليم «البابا كيرلس الأول»- الملقب بـ«عمود الدين»- وقد تبِعه كثيرون، فقام بإرشاده وتمكن من رده إلى الإيمان السليم. أيضًا ظهر فى أيام «البابا شنودة الأول» من ينادون باختلاف موعد عيد القيامة عن الموعد الذى يحتفل فيه (29 برمهات)، فأثبت لهم البابا خطأهم.
وحدث ذات يوم أن أراد إنسان أن يقدم مالاً إلى «البابا شنودة الأول» كى ما يرسُِمه أسقفًا!! فلم يقبل البابا. فقرر ذلك الإنسان أن يشكو البابا إلى الوالى، متهمًا إياه بأنه اقترض منه مالاً!!! وجاء بأحد الرهبان السريان، وألبسه زيًّا يبدو فيه أنه البابا، وجعله يُقر أمام بعض الناس أنه اقترض منه مالاً ليكونوا شهودًا له على البابا أمام الوالى. إلا أن خُطة ذلك الإنسان الشرير انكشفت لدى البابا الذى أسرع بحنو إلى كسبه، غافرًا له فعلته! فأقر ذلك الإنسان بذنبه، ونهاه البابا عن الكذب وفعل الشر فيما بعد، مذكٍّرًا إياه بيوم الدينونة المخوف الذى سوف يحاسب فيه كل إنسان على جنس عمله.
لم تتوقف أتعاب «البابا شنودة الأول» الداخلية عند تلك الأحداث، فقد قام شيخ مَسيحى يُدعى «يعقوب» بمحاربة البابا: إذ كتب إلى الوالى مع صديق له يهودى بأن البابا يمتلك مالاً كثيرًا، وأنه من الأثرياء، ويمكنه أن يقوم بدفع مائة ألف دينار كل عام!! وصل أمر ذلك الرجل إلى البابا وظل يصلى من أجله، وطلب من كبار رجال القبط أن يُسْدوا إليه النصح بالابتعاد عن الكَذِب، ولكنه لم يرتدع ومات هو وصديقه شر ميتة، وحزن البابا على موته وهو فى شره، وطلب إلى الله أن يرحمه. ومن أتعاب البابا أيضًا قيام أحد الشمامسة بالافتراء عليه لدى الوالى، الذى أمر بحبسه فى السجن ومنع الزيارة عنه، سامحًا بتقديم قليل من الطعام إليه عن طريق أحد تلامذته، وكان البابا يقدم منه للمساجين. وظل البابا فى محبسه أربعين يومًا، لم يفتُر خلالها عن الصلاة من أجل رحمة ذلك الشماس، حتى جاءه نادمًا طالبًا الصفح عن فعلته تلك، بعد أن كان الأطفال المسلمون والمَسيحيُّون يوبخونه عن كل ما فعله بالبابا القديس، وقبل «البابا شنودة الأول» توبة ذلك الشماس، وكان يقول: [إن المريض يحتاج إلى علاج، لا عقاب]، متمثلاً بفعل السيد المسيح مع الخطاة.
وحدث أن راهبًا شريرًا ذهب إلى الوالى، واتهم البابا بأنه يأخذ الشباب المسلمين ويجعل منهم رهبانًا، فأرسله الوالى بجنود إلى البابا، للتحقق من ادعائه، فمضَوا إلى الدير وأتَوا براهب مدعين أنه كان غير مَسيحى، ولكن الراهب رفض أن ينصاع لزعمهم الشرير فضربوه، ثم توجهوا إلى حيث يقيم «البابا شنودة الأول»، فى صحبة الراهب الشرير، وقبضوا على البابا، مع أنه كان مريضًا لا يقدر على مغادرة فراشه، ومن معه فى البطريركية، وما لديه من كتب وغيرها، ونُقلوا فى مركب إلى «مِصر» حيث ألقَوهم فى السجن جميعًا. وقد كان البابا يعانى أشد آلام المرض، ولكنه لم يفتُر عن شكر الله، وتشجيع من معه!! كذلك شفى البابا شماسه الذى ضُرب وسالت دماؤه، فتعجب جميع من فى السجن لما حدث. ثم تدخل بعض كبار القِبط لدى الوالى وقدموا له مالاً، فأفرج عن البابا ومن معه. أمّا الراهب الشرير، فقد هرب إلى «مريوط» خوفًا من الوالى والأقباط، وأقام بأحد الأديرة، وكان يضايق إخوته الرهبان كثيرًا، حتى أبلغ تجار مسلمون الوالى بشأنه وبما يفعله مع الرهبان، فقبض عليه وضُرب بالسياط وقُيد بالسلاسل عامًا، ثم مرِض بمرض «الجزام».
أتعاب خارجية
تعرض «البابا شنودة الأول» لكثير من المضايقات من «أحمد بن مُحمد ابن المدبر» والى مِصر على الخَُِراج (الضرائب). ويذكر المؤرخون عن «ابن المدبر» أنه كان أديبًا يقرض الشعر، وقد ولّاه «الخليفة المتوكل» على عدد من الدواوين من أهمها «ديوان الخَُِراج»، فقام بابتداع ضرائب لم تكن معروفة من قبل! وبذلك استطاع جمع أموال لا تُحصَى إلى خِزانة الخليفة. تولى «ابن المدبر» خَُِراج «الشام وفِلَسطين»، ثم أقامه «الخليفة المنتصر» على خَُِراج «مِصر»، ويذكر عنه المؤرخ «ابن المقفع»: «كان رجلاً شديدًا، صعبًا فى أفعاله، مخوفًا عند الناس، لا يُغلب». ويُذكر أنه طالب أباه بجميع الضرائب المقررة عليه وحصَّل منه أكثر منها!!
عندما وصل «ابن المدبر» إلى مِصر ضاعف الضرائب على جميع من يعيش على أرضها من المسلمين، والمَسيحيِّين، واليهود، ولم يرحم من ليس لديه، فامتلأت السجون بغير القادرين على دفع الضرائب. كما فرض ضرائب عديدة لم تكُن من قبل على: المراعى، والمُروج (رعْى الدواب فى أرض واسعة ذات نبات ومرعى)، والصيد، والخضروات المزروعة، وأشجار النخيل، والكروم، والفاكهة، والصناعات. وقام «ابن المدبر» بعمل إحصاء للرهبان فى جميع أرض «مِصر»، وطالبهم بـ«الجزية عن المراعى والنخيل والأشجار». وقد عُرفت باسم «الضرائب الهلالية» لأنها تُجمع بحسب الشهر القمرى، عكس الخَُِراج الذى يُجبى بحسب السنة الشمسية. و… وعن «مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسىّ