تتضاءل الكلمات وتختفى حين يحاول الإنسان أن يصف بها المشاعر التى تجتاح أعماقه، سواء بالسعادة أو الألم، لتقدم ظلال صورة لِما يملأ فكره وقلبه. وتُعد واقعة استشهاد «القمص سمعان شحاتة» كاهن كنيسة الشهيد يوليوس الأقفهصىّ بعزبة جرجس بالفشن ببنى سويف، الذى استُشهد يوم الخميس الماضى، إحدى الوقائع التى تختلط فيها مشاعر الألم، عندما فقد إنسان برىء لم يرتكب أىّ ذنب حياته بدم بارد، بمشاعر الفرح والسعادة والسلام التى يشعر بها هو الآن فى الحياة الأخرى بعد تركه هذا العالم.
إن معنى كلمة الاستشهاد، كما سبق أن تحدثنا فى مقالة من مقالات مصر الحلوة، كان أولاً يرتبط بشهادة الإنسان لإيمانه من خلال أعماله وسلوكه، ثم صار يعبّر عمن يقدم حياته من أجل الواجب، أو الخير، أو من أجل الله. وفى المَسيحية، أخذ الاستشهاد معناه كوصف لجميع الذين قبِلوا أن يقدِّموا حياتهم من أجل إيمانهم. وبذلك فهو ينطوى على معنى تقديم حياة الإنسان إلى الله.
إلا أن الاستشهاد ليس بالأمر الغريب أو الجديد على المَسيحية، فقد سبق وأُعلن فى الكتاب: «تأتى ساعة فيها يظن كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله». وبذلك أصبح الاستشهاد يرتبط بالموت، ولكن قدم له مفهومًا أعمق وأسمى، فلم يعُد الموت هو تلك النهاية أو ذلك الرحيل الذى يفزع منه البشر فى مواجهة مجهول لا يعرفونه، بل أضحى نوعًا من الرقاد والعُبور إلى حيث الراحة والسلام والفرح الدائمين فى حضرة الله المحب العادل. وهكذا صارت نظرة المؤمنين فى جميع الأجيال وحتى الآن إزاء الموت: إنه انتقال من مكان إلى مكان، ومن حياة إلى حياة، ومن عِشرة إلى عِشرة، بل هو ذلك الجسر الذهبىّ الذى يربِط العالم بالأبدية. وقد عبّر الشهداء على مر الزمان عن هذا الفكر إذ نجد أحدهم يذكر فى إحدى الرسائل: «الروح الخالدة تسكن فى خيمة مائتة، والمَسيحيُّون يحيَون كغرباء فى أجساد قابلة للفساد، متطلعين إلى مسكن لا يَفنَى فى السماوات»، وهكذا أحب الشهداء الموت: فنرى الشهيد الأسقف «أغناطيوس الأنطاكى» يكتُب رسالة إلى أهل «رومية» حين بلغه أن المؤمنين هناك يستعدون لإنقاذه من الموت، فيقول لهم: «أأستطيع أن أصل إلى مبتغاى دون عائق؟… أخشى أن تظلمنى محبتكم!… لن تتاح لى فرصة كهذه للذَّهاب إلى الله… إننى ذاهب بملء رضاى إلى الموت من أجل الله، راجيًا ألا تقفوا عائقًا فى سبيلى. أتوسل إليكم ألا تكون شفقتكم فى غير وقتها المناسب. دعوا الوحوش تأكلنى لأنى عن طريقها سأصل إلى الله…»!!
إلا أننا يجب أن ندرك أن الاستشهاد ليس لكل إنسان، فلكل شخص رسالته فى الحياة ودوره وواجبه ومسؤولياته التى اؤتمن عليها من الله، فعلى سبيل المثال: ترك «أنبا أنطونيوس الكبير» أب الرهبان مغارته مغادرًا إلى مدينة «الإسكندرية» فى عصر الاستشهاد من أجل نَيل إكليل الاستشهاد، إلا أن الله حفِظه من أجل رسالة أخرى له فى العالم ودور عظيم فى تقديم طريق الرهبنة، لا فى «مِصر» فحسب، بل العالم بأسره.
أيضًا الاستشهاد هو تكليل لحياة تمتلئ بالمحبة والخير والنقاء لأشخاص عاشوا حياة روحية طاهرة قوية مع الله، تجلت فى محبة وصلاح وود مع البشر، لقد كانوا يعيشون على الأرض بينما قلوبهم وأشواقهم فى السماء. فهو أمر محسوب بدقة شديدة جدًّا، من أجل أنفس محددة. وليس من المصادفة غياب شخص أو حضوره فى مكان ما وقت الاستشهاد.
كما أدرك الشهداء أن الاستشهاد ليس شجاعة مفاجئة يكتسبها الإنسان، أو هو عدم اهتمام بأمور الحياة، أو هروب من المشكلات، لذلك نجدهم لم يتهربوا من حمل مسؤولية الحياة عندما كانوا يعيشون فيها، بل عمِلوا وتحملوا مصاعبها وآلامها، لكنهم آثروا تركها بالثبات على إيمانهم. وبذلك يكون الاستشهاد هو ارتفاع الإنسان بفكره وسلوكه إلى ما هو أعمق من الحياة الحياة الحاضرة فتمكنوا من التنازل عن كل ما فيها حتى حياتهم. وبهذا يكون قد اقتبل المؤمنون المَسيحيُّون على مر العصور، منذ القرن المَسيحىّ الأول حتى اليوم، مع إيمانهم المَسيحى، مبادئ روحية أثَّرت فى حياتهم ومفاهيمهم بل نظرتهم نحو الحياة؛ لذلك امتلأت حياة الشهداء بكثير من الفضائل منها:
■ الزهد: لم يهتم الشهداء بأن يمتلكوا شيئًا فى هذا العالم، فالعالم بكل ما يحمله من غنى هو أفقر من أن يمنحهم أىّ شىء!!
■ المحبة: كانت المحبة لآلئ تضىء فى حياة الشهداء، فقد أحبوا الله محبة عظيمة حتى إنهم استهانوا بحياتهم باذلين إياها بكل فرح، فهُم «… لم يحبوا حياتهم حتى الموت». وأتذكر ما قاله مثلث الرحمات «البابا شنودة الثالث»: «كثير من الناس يُعطُون، ولكن من يعطى حياته هو أعظم من هؤلاء جميعًا». أيضًا امتدت محبتهم لله لكى تشمل الجميع، خاصة أعداءهم بدرجة تفوق التصور فقيل: «… أحبوا أعداءكم. بارِكوا لاعِنيكم. أحسِنوا إلى مبغضيكم، وصلُّوا لأجل الذين يُسيئون إليكم ويطردونكم…». وقد أحبوا وغفروا.
■البذل: فى الاستشهاد بذل يصل إلى تضحية الإنسان بنفسه فى مقابل ما يؤمن به، فيقدم حياته من أجله. وحتى يتمكن الشخص من الوصول إلى هذه الدرجة من البذل، يجب أن يكون قد تدرب عليه وعلى العطاء للآخرين أثناء حياته على الأرض، فيقدم لهم ما يستطيعه من مال وجُهد وتشجيع ومحبة.
■ الوداعة: ارتبطت حياة الشهداء بالوداعة إذ صارت جزءًا لا يتجزأ من حياتهم، وقد قدَّم الشهداء مشاهد عظيمة لتلك الوداعة، فلم نجدهم يتمردون أو يُثيرون الشغْب، أو يقاتلون من يقتُلهم، بل كانوا يحملون فى قلبهم وداعة فائقة تعجب لها الجميع.
أخيرًا
إن الاستشهاد لن يؤذى من استُشهد، بل ينقُله إلى حياة أفضل. ولكنه يؤثر سلبًا فى أولئك الذين اضطهدوا، فلقد قدَّم التاريخ مشاهد عديدة لنهايات المضطهِدين التى كانت سيئة وماتوا أشر ميتة. إن عدل الله لا يقبل ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، وحتما سيجازى كل إنسان عن كل عمل اقترفه فى حياته سواء كان خيرًا أو شرًا. كما أن الله ضابط الكل يتأنى لكنه لا ينسى، ولا يُهمل، لذلك فإن حق الشهداء محفوظ لدى الله. ولكن كيف للسلام أن يعيش، وزئير الموت يحاول أن يهدم دعائمه؟! كيف يمكن البناء فى ظل مشاعر القسوة والكراهية والهدم؟ كيف لـ«مِصر» أن يعلو شأنها، والأحزان تطارد أبناءها؟! كيف لـ«مِصر» أن تستقر؟!
و… وفى مصر الحلوة الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسىّ