«مِصر»، و«المِصريُّون»، و«انتصارات أكتوبر»: كلمات تتلاحم على صفحة التاريخ المِصرىّ لترسُِم صورة لأجمل محطات التاريخ وأزهاها وأشرفها، محطات توقف عندها، ليس المِصريُّون فحسْب، بل العالم بأسره، بعد أن انطلق رجال «مِصر» البواسل فى معركة وطن بأسره، فى السادس من أكتوبر من عام 1973، وبالتدقيق فى الساعة الثانية عصرًا، انطلق أبطال «مِصر» فى موعد مع النصر الذى عمِلوا على تحقيقه سنوات طوال إلى أن صار واقعًا لا يتثنى لأحد أن يُنكر عظمته. وفى هذه المناسبة الخالدة، أتذكر كل مواطن من الشعب المِصرىّ الأبىّ وأبطاله الجنود الشوامخ الذين لم يستسلموا ليأس أو إحباط بل قرروا المضى قدمًا فى طريق تحرير ما سُلب منا، فعمِلوا بكل ما أمكنهم من طاقات وإمكانات فى محبة وإخلاص وأمانة وتعاون من أجل تحقيق ذلك النصر، وقد كان.
تقدم لنا صفحات التاريخ التى خُطت عن حرب أكتوبر دروسًا حُفرت فى الفكر والذاكرة الإنسانية على مر الزمن. وكما يتعلم الإنسان من جميع ما يمر به من خبرات فى الحياة السعيدة منها والمؤلمة، كانت أكتوبر محكًا لما تعلمه المِصريُّون وما وعَوه من ألم مرير من هزيمة عُدوان يونيو 1967، فقد أشارت تلك الهزيمة إلى وجود نقاط ضعف وثغرات تحتاج إلى بناء داخلىّ وتغيير. ومع أن تلك الهزيمة تعرض لها رجال القوات المسلحة عقب خوضهم «حرب اليمن» بخمْس سنوات، التى فُقد فيها كثير من الرجال والعتاد، فإنه كان بينهم إيمان باحتياج إلى كثير من التدرب اللازم لرفع الكفاءة القتالية لجُنودنا، مع إعادة وهيكلة وتنظيم العديد من الأمور الفنية والإدارية. فماذا كان يحدث لو لم يُدرك القادة نقاط الضعف تلك؟! وهكذا دائمًا ما تكون الخُطوات الأولى نحو طريق النصر بكشف نقاط الضعف بكل صراحة وأمانة كى ما يتم علاجها بإيجابية، فليس العيب أن تظهر ضعفات، وإنما كل العيب أن نغُض أبصارنا عنها، محاولين أن نتجنب حديثًا عنها، ومن ثَم لا تنقشع من طريقنا وتظل تكبل أعماقنا ونسير فى دائرة غير منتهية الفشل.
أيضًا فى أثناء مرحلة البناء تلك، لم يتوقف الجُنود الأبطال عن استخدام مهاراتهم وما لديهم من إمكانات فى جعل العدو يكابد خَسارة تلو الخَسارة فى أثناء «حرب الاستنزاف» التى استمرت قُرابة ثلاث سنوات ونصف السنة، متضمنة ثلاث مراحل: الصمود، والمواجهة والدفاع، ثم الردع والحسم. وهكذا كانت القوات المسلحة المِصرية تُبنى من الداخل، وتحقق لها استكمال بناء منظومة «الدفاع الجوى» و«القوات الجوية»، وإعادة التنظيم والتدريب لأفراد القوات، وفى الوقت نفسه تُشحذ الهمم وتُستخدم المهارات الفكرية والتخطيطية والقتالية فى عمليات عسكرية ناجحة حمَّلت العدو خسائر جسيمة، وأعادت الثقة لأبناء مِصر. وكما تحتاج المجتمعات والبشر إلى معالجة ما بها من ضعف، فهى تحتاج إلى استخدام ما بها من مهارات كى تستعيد ثباتها وثقتها.
درس آخر يخُط أحرفه رجال أكتوبر فى ذاكرة المِصريِّين، فهم لم يقفوا أمام الهزيمة موقف الألم والمرارة فقط، ولم يكُن النصر لديهم يتجسد فى أحلام أو أمنيات فحسْب، بل كانوا يُدركون أن طريقًا شاقًّا يجب عليهم أن يرتادوه. لقد كان طريق النصر محاطًا بكثير من العمل الشاق المضنى من أجل تلقى التدريب اللازم وبناء قواتهم التى هى السبيل الفعلىّ لتحقيق الانتصار، لقد أدركوا أن ما نَيل المطالب بالتمنى ولكن ببذل مزيد من الجُهد للارتقاء إلى المستوى المطلوب، لتحقيق نصر بجدارة شهِد لها العالم بأسره فيما بعد. لذلك علينا، ونحن نعيش ذكرى تلك الانتصارات: أن نُدرك أن بناء بلادنا، وتخطيها لجميع ما يحيق بها من عقبات وأخطار، إنما هو طريق عمل بل كلل، لا لفرد أو مجموعة بمفردها، بل بنا جميعًا أبناء ذلك الوطن الغالى علينا. مرة ثانية أود أن أؤكد أن الوطن يحتاج إلينا جميعًا معًا، ولذا أتذكر أحد مواقف أكتوبر الطريفة التى قرأتها وتُبرز لنا أهمية تشاركنا وعملنا معًا، كان الموقف بين قائد الجيش الثانى: اللواء «سعد مأمون» وبين قائد «الفرقة 18 مشاة- ميكانيكا: العميد «فؤاد عزيز غالى». فقد قام العميد «فؤاد غالى» بالاتصال بقائد الجيش قرب منتصف الليل، فكان هذا الحوار:
ـ اللواء «سعد مأمون»: يا فؤاد، قطعًا كان عندك الموقف عسيرًا.
ـ العميد «فؤاد غالى»: فعلاً، يا أفندم، لكننا تغلبنا عليه.
ـ اللواء «سعد مأمون»: لماذا لم تتصل بى على الفور؟
ـ العميد «فؤاد غالى»: إن من عادتى عندما أواجه موقفًا مفاجئًا ألا أثقل على قائدى، لذلك لم أرد، يا أفندم، حتى أنتهى من مواجهة الموقف على أحسن حال.
ـ اللواء «سعد مأمون»: هذا خطأ!
ـ العميد «فؤاد غالى»: ولكنى كنت متابعًا لكل اتصالاتك، يا أفندم، وأسمع قراراتك ومشورتك، وكنت أعمل بها وبغيرها من واقع ما أراه على الطبيعة، وكل هدفى ألا أزعجك، فأنا أعرف مسؤولياتك مع مواجهة ممتدة مائة كيلومتر.
ـ اللواء «سعد مأمون»: أكرر هذا غلط! لأننى عندما لا أسمع صوت قائدى مدة ساعة، فهذا موقف حرج يدعو إلى القلق. لو ضاع منك نصف رأس الشاطئ، كنت لا أقلق لأننا نتصدى معًا لأىّ موقف. لكن عدم ردك أقلقنى جدًّا، فلا تفعل هذا مرة أخرى: هذه آخر مرة.
ـ العميد «فؤاد غالى»: حاضر، يا أفندم.
انتهت المكالمة. ثم قام العميد «فؤاد غالى» بالاتصال باللواء «سعد مأمون» فى العاشرة من صباح اليوم التالى:
ـ العميد «فؤاد غالى»: إننى فى مأزِق، لواء مدرع للعدُو فى طريقه إلى مهاجمتى من الجانب الأيسر، أحتاج حمايتى بالطيران والمدفعية.
ـ اللواء «سعد مأمون»: سأفترض أننى لم أسمع! سأقفل الخط وأرد عليك بعد ساعة، كما فعلت معى!!
ـ العميد «فؤاد غالى» يجيب، وهو يضحك: لا، فى عرضك!!
ـ اللواء «سعد مأمون»: هل عرَفت الآن معنى عدم ردك علىّ مدة ساعة؟
ـ العميد «فؤاد غالى»: عرَفت. لن تحدث مرة أخرى. أرجوك: اُطلب لى الحماية بسرعة!! تُبت!!
ضحك قائد الجيش وقائد الفرقة. واتخذت كل الإجراءات لوقف تقدم اللواء المدرع الإسرائيلى.
لقد كانت فكرة اللواء «سعد مأمون» تكمن فى عبارة مهمة: «لو ضاع منك نصف رأس الشاطئ، كنت لا أقلق: لأننا نتصدى معًا لأى موقف». نعم، العمل معًا- كلٌّ فى موقعه- هو أهم عناصر النجاح والنصر والبناء فى المجتمعات كافة، وبه استطاعت كثير من البلاد أن تنمى من ذاتها ومكانتها وشأنها فى الحياة، لذلك علينا أن نعمل من أجل تحقيق مستقبل يمثل امتدادًا لنصر أكتوبر، ودون يأس. وعلينا أن نثِق أنه يمكننا قهر ما يمكن أن يعترضنا من صعاب، بل ما يُعد مستحيلاً: عندما نستلهم قوتنا من تاريخ «مِصر».
و… وفى «مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسىّ