تحدثنا فى مقالة سابقة عن تولى الخليفة «مُحمد المنتصر» (247- 248هـ) (861- 862م) الخلافة من بعد مقتل أبيه، وخلعه أخويه «المعتز» و«المؤيد» عن ولاية العهد من بعده سمعًا لمشورة قواده. إلا أن حكم الخليفة «المنتصر» لم يستمر سوى قرابة ستة أشهر، فقد مرِض ومات، وقد اختلف المؤرخون فى أسباب موته. أما الخلافة فقد آلت من بعده إلى «المستعين بالله» حفيد «المعتصم» (248- 252هـ) (862- 866م)، وقد قيل إنه لم يكُن له أمر فى الخلافة سوى مظهرها! ونتيجة للتنازع بين القواد حدثت الاضطرابات، حتى إن «المستعين» خشِى الأمر فذهب إلى «بغداد» مع رجليه «وصيف» و«بُغا» عام 251هـ (865م)، فى حين اتفق الجند على إقامة خليفة آخر بدلاً عنه فبايعوا «المعتز» ليكون خليفة لهم، وهكذا صار خليفتان: «المستعين» فى «بغداد»، و«المعتز» فى «سامَرّا»، لتبدأ سلسلة من الصراعات بينهما كان لها أشد الأثر فى البلاد التابعة للحكم العباسىّ ومنها «مِصر».
قام كل من الخليفتين بإرسال أوامره إلى البلاد التابعة للدولة العباسية، يأمر فيها الولاة والناس باتّباعه والخروج على الخليفة الآخر، ما تسبب فى كثير من الاضطرابات والتضارب حتى بدأ القتال بينهما. بدأ «المعتز» فى الاستعداد وتهيئة الجيوش لقتال «المستعين» فأرسلها إلى «بغداد» بقيادة أخيه «أبى أحمد بن المتوكل»، وظلت الحرب بينهما طوال عام 251هـ (865م)، شهِدت بغداد فيه فتنًا واضطرابات وقلاقل حتى تمت المفاوضات بين كل من «المستعين» و«المؤيد» على الصلح شريطة تنازل «المستعين» عن العرش، فقام «المستعين» بخلع نفسه ومبايعة «المعتز» وكان ذلك عام 252هـ (866م)، وبذلك تكون مدة خلافته حتى نزوله إلى «بغداد» سنتين وتسعة أشهر، وإلى انخلاعه من الخلافة ثلاث سنين وستة أشهر. ثم خرج «المستعين» من «بغداد» إلى واسط وهناك قُتل قبل مرور عام، وقد اختلف المؤرخون فى كيفية قتله: فيذكر المؤرخ «التَّغرىّ» أن «الخليفة المعتز» طلب من «أحمد بن طولون» التركى أن يقتُله، ولكنه رفض طلب الخليفة، قائلاً: «لا والله! لا أقتُل أولاد الخلفاء». فقال له «المعتز»: فأوصله إلى «سعيد الحاجب»، فتوجه به وسلمه إلى «سعيد الحاجب»، فقتله «سعيد الحاجب» فى «شوال». ويذكر المؤرخ «الطبرىّ»: وأتى «سعيدُ بن صالح» «المعتزَّ» برأسه (رأس «المستعين») وهو يلعب بالشِّطرنج، فقيل: هذا رأس المخلوع. فقال: ضعوه هنالك. ثم فرغ من لُعبه، ودعا به فنظر إليه، ثم أمر بدفنه، وأمر لـ«سعيد» بخمسين ألف درهم ووُلِّى معونة البصرة.
أحوال الدولة فى حكم الخليفة «المستعين»
عمت الاضطرابات أرجاء «الدولة العباسية» بدرجة كبيرة، فقد قامت الثوْرات فى عدد من الأقاليم، منها: ثورة أحد العَلَويِّين فى «الكوفة»، وآخر فى «طبرستان»، واندلعت الثورة فى «سجستان»، وفى بلاد العرب، وحدثت اضطرابات فى «المَُوصل»، و«فِلَِسطين»، و«حمص»، و«أصبهان»، وغيرها من البلاد.
«اليزيدية»
قام «يَحيى بن عمر بن يَحيى بن يزيد بن علىّ بن الحسين» بثورة فى «الكوفة»، واجتمع إليه كثير من العرب، وتمكن من الاستيلاء على «الكوفة»، فأرسل إليه «مُحمد بن عبدالله بن طاهر» جيشًا كبيرًا بقيادة «ابن مُصعب»، وكان قائدًا محنكًا فى فُنون القتال والحرب، فانتصر على الثوار وقتل عددًا كبيرًا منهم، وقُتل أيضًا «يَحيى» عام 250هـ (864م)، وأرسل رأسه إلى الخليفة «المستعين» الذى أمر بوضعه على أحد أبواب مدينة «سامَرّا»، ثم رده إلى «بغداد» بعد تذمر الناس واحتجاجهم، فثار البغداديُّون أيضًا فأنزل الرأس وحفِظه فى صَُندوق فى بيت السلاح.
وفى «طبرستان»، ثار «الحسين بن زيد بن مُحمد» على «الدولة العباسية»، وكان سبب ثورته- كما ذكر «الطبرى»- أن الخليفة «المستعين» قد وهب لـ«مُحمد بن طاهر» قِطعًا من الأراضى بـ«طبرستان». وعندما أرسل «ابن طاهر» شخصًا يُدعى «جابر بن هارون» لحيازة تلك الأراضى، أراد أن يحصل على أكثر منها، فثار الأهالى وانضم إليهم «الديلم» وقصدوا محاربة الحاكم، فرغبوا فى وضع قائد لهم فاختاروا «الحسن بن زيد». استولى «الحسن» والثوار على مدينة «آمل» فقوى وانضم إليه آخرون، فتوجه إلى مدينة «سارية» وطرد حاكمها، ثم مدينة «الرّى»، وهكذا استطاع «الحسن بن زيد» فى إقامة دولة «زيدية» فى «طبرستان» استمرت قرنًا من الزمان.
أمّا عن الأحوال الخارجية، فقد كانت الحرب لاتزال بين «العباسيِّين» و«الروم». وفى زمان «المستعين»، استطاع «الروم» تحقيق انتصارات فى «آسيا الصغرى»، وقتل عدد كبير من الجنود مع قائدين من أمهر القواد وكان ذلك عام 249هـ (863م). لكن لانشغال الخليفة وجنده بالدسائس والمؤامرات، لم يُولُوا الأمر اهتمامًا كبيرًا.
الخليفة «أبو عبدالله المعتز» (252- 255هـ) (866- 869م)
ذكرنا فيما قبل أمر توليه بعد خلع «المستعين» عام 252هـ (866م). ويذكر المؤرخون أن شأن «الأتراك» ازداد فى عصره، حتى إن سلطة الخليفة صغرت فى أيامه جدًّا على نحو لم يُعهد من قبل: فلم يكُن يمكنه تولية وزير أو كاتب أو عزلهما!! كذلك ازدادت الاغتيالات فى عصره بسبب كثرة الاختلافات الواقعة بين الجند. وهكذا انشغل الجميع بأمور الدسائس، وتُركت الدولة وشُؤونها بغير ترتيب أو اهتمام.
ومع بَدء حكمه، طلب إليه الأتراك العفو عن «وصيف» و«بُغا» فعفا عنهما مكرهًا ورد إليهما أملاكهما وما كان لهما من نُفوذ. وكما ذكرنا فإن شُؤون الدولة كانت بغير اهتمام، فأدى ذلك إلى حدوث المنازعات فى «بغداد» و«سامَرّا» بين جند «المغاربة» وجند «الأتراك»، حيث طالب «المغاربة» بأن يكون لهم نفوذ ووظائف تماثل نفوذ الأتراك، فآلت الأمور إلى نزاع لا يتوقف: فقد انتزع «المغاربة» من «الأتراك» بيت المال وحققوا ما كانوا يطلبونه، ولكن «الأتراك» تمكنوا من استرداده وقتلوا قوادهم، وفى عام 253هـ (867م) طالب جند «المغاربة» و«الأتراك» و«الفرس» بأموالهم مدة أربعة أشهر فأجابهم «وصيف» بشدة فقاموا عليه وقتلوه، فجعل الخليفة مهماته أولاً للقائد «بُغا»، ثم انقلب على «بغا» فأعطيت مهام «وصيف» لابنه ويُدعى «صالح». وفى ذلك الوقت، قرب إليه القائد «بايكباك» فصارت أمور الدولة بأسرها بين «صالح» و«بايباك».
وقد تعرضت «بغداد» لكثير من الشغب فى تلك الآونة: بين واليها «مُحمد بن عبدالله بن طاهر» وبين الجند، واندلعت الحروب بينهما، فانتصر الجند أول الأمر، لكن لم يظل النصر حليفهم طويلاً إذ تمكن «مُحمد بن طاهر» من التغلب عليهم وقتل زعمائهم، فآلت أمور البلاد إلى بعض من الهدوء.
أما أحوال «مِصر» فى ذلك الزمان، فقد تأثرت كثيرًا، إذ… وفى «مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسىّ