تحدثنا فى المقالة السابقة عن الصراع بين الخليفة «المستعين» الذى اتخذ «بغداد» مقرًا لحكمه وبين «المعتز» الذى حكم من «سامَرّا»، ليتحول إلى حرب انتهت بخلع «المستعين» نفسه ثم مقتله بعد ذلك. وعرضنا لأحوال الدولة الداخلية والخارجية أثناء حكم «المستعين»، ولِما اندلع من ثوْرات فى أرجائها. وعرضنا لأيام الخليفة «المعتز» (252- 255هـ) (866- 869م) وما بها من اضطرابات ودسائس وضعف فى سلطة الخليفة.
وذكرنا فى المقالة السابقة أن الخليفة قرَّب إليه القائد «بايكباك» لإدارة شُؤون الدولة بعد قتل «بُغا»، وقد أضاف إليه إدارة شُؤون «مِصر» واختيار من يحكمها، فوقع اختياره على «أحمد بن طولون» نائبًا عنه فى حكمها وكان ذلك عام 254هـ (868م).
خلع «المعتز»
لم تكُن سلطة للحكم يتمتع بها «المعتز» إزاء تلك التى لقواده الأتراك. وقد أصبحت خِزانة الدولة خاوية فى أيامه، حتى إنه لم يتمكن من دفع رواتب جنده فثاروا عليه، وعلى رأسهم «صالح بن وصيف» التركىّ. ويذكر المؤرخون أن «صالح» دخل على «المعتز»- وكان لديه وزير يُدعى «أحمد بن إسرائيل»- وسأل الخليفة عن مال للجند متهمًا «ابن إسرائيل» وأصحابه بجمع مال الدولة: فأجابه أحمد بن إسرائيل بشىء من الشدة… ولما بلغ الخبر مسامع أصحاب «صالح»، دخلوا على «المعتز» مُصْلِتين (مُشْهِرين أو بارزين) سُيوفهم. فلما رأى ذلك «المعتز» دخل وتركهم، وأخذ صالح بن وصيف «أحمد بن إسرائيل» و«الحسن بن مخلد» كاتب قبيحة «أم المعتز» و«أبا نوح عيسى بن إبراهيم» فقيَّدهم وطالبهم بالمال. وقد حاول «المعتز» وأمه إنقاذ وزيره «أحمد» ولكن لم تُفلح محاولاتهما، وعندما طالبوا الخليفة بالرواتب لم يتمكن من إجابة طلبهم لا سيما أن أمه قد رفضت أن تساعده بشىء من مالها. فاتحدوا جميعًا على خلع الخليفة، وقد كان: فقد دخل عليه «صالح بن وصيف» و«بايكباك» و«مُحمد بن بُغا» حاملين سلاحهم، وأخرجوه بعد ضربه بالدبابيس، وجعلوه يقف فى مكان مشمس، حتى حضر قاضى القضاة بكتاب عزل الخليفة ليوقّعه، فوقَّع عليه الحاضرون وشهِدوا، وقد ذُكر أنه بعد خلعه أنهم أسلموه لمن عذبه حتى مات.
الخليفة «مُحمد المهتدى بالله» (255- 256هـ) (869- 870م)
«مُحمد المهتدى بالله بن هارون الواثق بن المعتصم». صار الخليفة الرابع عشَر بعد خلع «المعتز». يذكر المؤرخون أن «المهتدى» كان فى «بغداد» حين خلع «المعتز»، فأحضره الأتراك وعرضوا عليه الخلافة، لكنه رفضها حتى يتأكد الأمرُ لديه من قبل «المعتز»، فأحضر «المعتز» وقال له: «أنت فى حل من بَيعتى»، وعندئذ قبِل الخلافة واعتلى عرش الدولة العباسية.
ويُذكر عن شخصية «المهتدى» أنه اشتُهر بالصلاح والتقوى والعدل، كما أنه اهتم بشُؤون الدولة المالية فاقتصد فى أموالها. أمّا عن عَلاقته بالأتراك، فقد حاول «المهتدى» وقف طغيانهم باستعمال الحيلة وبث الخلافات بينهم. فيُذكر أن «موسى بن بُغا» و«بايكباك» كانا يحاربان فى بلاد «المَُوصل» بعض الخارجين على الدولة العباسية، فأرسل الخليفة إلى كل منهما رسالة على انفراد يطلب كل منهما قتل الآخر! ولما علِما نية الخليفة، عادا إلى «سامَرّا» لمواجهة الخليفة، لكنه تمكن من القبض على «بايكباك» وأمر بقتله. كانت هذه الأحداث الشرارة التى اندلعت بين الخليفة «المهتدى» و«الأتراك» الذين بدأوا فى إعداد عُدتهم لمحاربة الخليفة، وهكذا اندلعت الحرب بين الفريقين، وانتهت بهزيمة «المهتدى» والقبض عليه ثم خلعه، وذُكر أنه مات بعد ذلك بعدة أيام ميتة غامضة، بعد أن قضّى فى الخلافة أحد عشَر شهرًا وقرابة خمسة عشَر يومًا.
أمّا أحوال «مِصر» فى ذلك الزمان، فقد تأثرت كثيرًا، فمع تولى «المعتز» أمور الخلافة كان لايزال «يزيد بن عبدالله» (242هـ- 253هـ) (856- 867م) يحكم الديار المِصرية، وقد تحدثنا عن زمان حكمه الذى تخطى عشْر سنوات حيث انتهى بثورة «جابر بن الوليد» فى «الإسكندرية» واندلاع الحروب، حتى أرسل الخليفة «المعتز» جيشًا جرارًا يقوده الأمير «مزاحم بن خاقان» انضم إلى جيش «يزيد». وقامت معارك شديدة انتهت بهزيمة الثائر «جابر بن الوليد» وجنوده. وبعد انتهاء الحرب، عزل الخليفة «يزيد بن عبدالله» وجعل «مزاحم بن خاقان» أميرًا على «مِصر» بدلًا منه.
مزاحم بن خاقان (253- 254هـ) (867- 868م)
هو «مزاحم بن خاقان عُرطوج» أخو «الفتح بن خاقان» وزير الخليفة «المتوكل» الذى قُتل معه. تولى أمور «مِصر» بعد عزل «يزيد بن عبدالله». بدأ حكمه بالشدة وهو ما جعل كثيرًا من المِصريِّين يثيرون عليه، فأعد جيشًا لقتالهم وبدأ بقتال أهل «الحوف» من الوجه البحرى، ثم أهل «تروجة» فى «البحيرة»، ومن بعدهم أهل «الفيوم» حيث قتل كثيرًا من أهالى تلك البلاد وأَسَرهم، وخاصة «الفيوم» التى شهِدت حروبًا كثيرة وقتل كثيرين. ويذكر المؤرخون: «وكثر بعد هذه الواقعة (الفيوم) إيقاعه بسكان النواحى»، كذلك حرّض رئيس شرَْطته على كثير من الأمور والتضييق على الشعب منها: منع النساء من الخروج من منازلهن، والتوجه إلى الحمامات والمقابر، ومنع الناس من الجهر بالبسملة فى الصلاة بالجامع، وأمْر أهل الجامع بمساواة الصفوف فى الصلاة، ومنع المساند التى يُستند إليها فى الجوامع، والنهى أن يُشق ثوب على ميت أو يسوَّد وجه أو يُحلق شعر أو تصيح امرأة. وقد قيل: «وعاقب بسبب ذلك خلقًا كثيرًا، وشدد على الناس حتى أبادهم»، وظل هكذا حتى مرِض ومات عام 254هـ (868م) بعد أن حكم «مِصر» عامًا وعشرة أشهر تقريبًا.
أحمد بن مزاحم 254هـ (868م)
هو «أحمد بن مزاحم بن خاقان». تولى حكم «مِصر» باستخلاف أبيه له بعد مرضه، فأقره الخليفة «المعتز» على حكم البلاد بعد موت أبيه. لكن لم تطُل أيام حكمه على «مِصر» إذ مرِض ومات بعد قرابة شهرين من حكمه. ويذكر المؤرخ التَّغْرى: «وكان (أحمد) هذا شابًّا عارفًا مدبرًا محببًا للرعية، لم تطُل أيامه لتُشكر أو تُذم». استُخلف من بعده «أرخوز بن أولوغ طرخان» التركى.
«أرخوز بن أولوغ طرخان» 254هـ (868م)
هو «أرخوز بن أولوغ»، من كبار أمراء الدولة العباسية. وُلد ونشأ فى «بغداد» حتى نال موضعًا كبيرًا لدى خلفائها. قدِم إلى «مِصر» وتولى أمور الشرِْطة بها، ثم تولى حكمها بعد موت «أحمد بن مزاحم» بعد أن أقره الخليفة «المعتز» على ذلك، مقضِّيا فى حكمها قرابة خمسة أشهر ونصف الشهر، ثم تولى حكم «مِصر» «أحمد بن طولون»، وبذلك يكون عام 254هـ (868م)، قد شهِد حكم أربعة أمراء على «مِصر» هم: «مزاحم بن خاقان»، وابنه «أحمد بن مزاحم»، ثم «أرخوز بن أولوغ»، ثم «أحمد بن طولون» الذى أسس «الدولة الطولونية» فى «مِصر». و… وعن «مصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى