تحدثنا فى المقالة السابقة عن حكم «أحمد بن طولون» لـ«مِصر»، وبنائه مدينة القطائع عام 256 هـ (270 م)، و«ميدان أحمد بن طولون»، ثم جامعه الذى بناه المهندس القبطى «سعيد بن كاتب الفرغانى» وشيًّده على أروع ما يكون، و«مسجد جبل يَشكُر». وعام 257هـ (871 م)، تسلم «ابن طولون» حكم «الإسكندرية»، ثم أصبح واليًا على «مِصر» والشام والثغور من قِبل الخليفة عام 259 هـ (872-873 م).
الـ«بيمارستان»
قام «أحمد بن طولون» ببناء مستشفى للمرضى «مارستان» أو «بيمارستان» كان يتابع أموره والعلاج فيه، وقيل إنه جعله دون مقابل، وألحق به صيدلية مجانية، متكلف إنشاؤهما قُرابة الستين ألف دينار!! وقد ذكر بعض المؤرخين أمر ذٰلك المال أن «ابن طولون» يومًا كان قد خرج للصيد فغاص قَوام الفرس الذى يمتطيه فى الرمال، فأمر من معه بحفر ذلك المكان فعثر على ألف ألف (مليون) دينار.
الزراعة
اهتم «ابن طولون» بتوسيع الرُّقعة الزراعية فى «مِصر» ما آل إلى زيادة الإنتاج الزراعى، واهتم بالرى ووسائله فقام بتطهير نهر «النيل»، وبشق الترع، وبإقامة الجسور، وبإصلاح الترع والقنوات والسُّدود، وأمد الفلاحين بالبذور والآلات الزراعية، على أن تُسترد أثمانها منهم بعد جنى المحصول وبيعه. وفى ظل هذه الإصلاحات، قام بإصلاح «مقياس النيل» بالروضة. وكما ذكرنا سابقًا، فإن «مقياس النيل» كان قد أقيم فى أيام والى «مِصر» «أسامة بن زيد التَّنُوخى» سنة 96هـ (714- 715 م) لقياس ارتفاع منسوب مياهه، ثم جُدد فى زمن الخليفة العباسى «المأمون» سنة 199هـ (814 م)، وظَل هكذا إلى أن أُعيد إنشاؤه من قِبل الخليفة «المتوكل» سنة 247 هـ (861 م)، ثم قيام «ابن طولون» بإصلاحه.
الابن يثور!
عندما خرج «ابن طولون» إلى بلاد «الشام» عام 264 هـ (877 م)، ترك حكم «مِصر» لابنه «العباس»، وجعل «أحمد بن مُحمد الواسطى» مدبرًا ووزيرًا له يساعده فى إدارة شُؤون البلاد، إلا أنه أشار عليه بعض الأشرار من بِطانة السوء أن يُعلن الثورة والعصيان على أبيه، وإلقاء القبض على «الواسطى» الذى أرسل إلى «ابن طولون» يعلمه بأمر «العباس» وثورته. وكان «العباس» قد أخذ كل ما فى «بيت المال» وذهب إلى «بَرقة». وعندما عاد «أحمد ابن طولون» إلى «مِصر»، أرسل جيشًا لمحاربة «العباس»!! فدارت حروب انتهت بالقبض على «العباس» وقواده، وإحضاره إلى أبيه الذى ألقاه فى السِّجن، حتى مات فى أثناء حكم أخيه «خِمارَوَيْه بن أحمد بن طولون»!! وقد أرسل «ابن طولون» رسالة إلى ابنه منها: «من «أحمد بن طولون» مولَّى (من ولاَّه) أمير المؤمنين إلى الظالم لنفسه! العاصى لربه! الملمّ بذنبه! المفسد لكسبه! العادى لطَوره (المتعدى أو المتجاوز حَده)! الجاهل لقدره!.. أيها الأحمق الجاهل! الذى ثَنَى ـ على الغَى (الإمعان فى الضلال) ـ عِطْفَه (عِطْف الإنسان: جانبه، من لدُن الرأس إلى الورك) (ثَنَى عِطْفَه: تكبَّر)، واغتر بضِجاج (بمشاغلة) المواكب خلْفه: أى مَوردةِ هِلْكة (المكان أو الطريق المُهلكة التى يَرِد إليها الساقطة من الناس) ـ بإذن الله ـ تورَّدتَ (تقدَّمتَ)، إذ على الله ـ جلَّ وعزَّ ـ تمردتَ وشرَدتَ!! فإنه ـ تبارك وتعالى ـ قد ضرب لك فى كتابه مثلاً: ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾. وإنا كنا نقرِّبك إلينا وننسُِبك إلى بُيوتنا طمعًا فى إنابتك، وتأميلاً (ترجِّيًا وترقُّبًا) لفَيئتك (لرُجوعك وتوبتك).. فحينئذ تعلَم ـ أيها المخالف أمر أبيه، القاطعُ رحِمه، العاصى ربه ـ أى جناية على نفسك جنَيتَ (أذنبتَ)، وأى كبيرة اقترفتَ واجتنَيتَ (حصدتَ)، (فكُنتَ) تتمنَّى: لو كانت فيك مُسْكَة (عقل وافر ورأى)، أو فيك فَضْل إنسانية، (أو) أنك لم تكُن وُلِدت ولا فى الخَلق عُرِفتَ، إلا أن تُراجِع (أمرك) من طاعتنا والإسراع إلى ما قِبلنا، خاضعًا ذليلاً كما يَلزَمك، فنُقيم الاستغفار مقام اللعنة، والرِّقة مقام الغَُِلظة (القساوة). والسلام على من سَمِع الموعظة فوعاها، وذكر الله فاتقاه ـ إن شاء الله تعالى».
الخليفة العباسى و«أحمد بن طولون»
وكان بعد خلع الخليفة «المهتدى» وموته بأيام قليلة، أن تولى الخلافة «أحمد المعتمد على الله بن المتوكل»، بعد أن أُخرج من السجن، ولكن أمور الحكم الفعلية للبلاد كانت تدار عن طريق أخيه «الموفَّق» الذى استأثر بالسلطان. أمّا عن عَلاقة «ابن طولون» بالخليفة «المعتمد»، فكانت أفضل من عَلاقته بأخيه «الموفَّق» الذى نشِب نزاع بينه وبين «أحمد بن طولون» الذى كان يقدم الأموال للخليفة من دونه، فى حين كان «الموفَّق» يحشُد كل موارد الدولة لوأد فتنة «الزَّنْج» التى كانت تجتاح الدولة العباسية آنذاك. وقد حاول «الموفَّق» تقليص نُفوذ «ابن طولون» فأرسل إليه «موسى بن بُغا» لإخضاعه لكنه لم يتمكن من الوصول إلى «مِصر» بسبب قلة الأموال. وقد زادت الأمور سوءًا عام 268 هـ (881 م) بعد حث «ابن طولون» للخليفة «المعتمد» على الحضور إلى «مِصر» لتكون مركزًا للخلافة العباسية، وترك «بغداد» هربًا من أخيه «الموفَّق». لكن «الموفَّق» كشف الأمر، وكان الخليفة قد ترك «سامَرّا» متجهًا إلى «مِصر»، فأرسل «الموفَّق» من أعاد الخليفة ومن معه إلى «سامَرّا» مرة ثانية، ما زاد الغضب والشقاق بين «أحمد بن طولون» و«الموفَّق» فيذكر بعض المؤرخين أنه عام 296 هـ (883 م) اتخذ «ابن طولون» قرارًا بخلع «الموفَّق» من ولاية العهد للخلافة بعد أن عقد اجتماعًا فى «دمَِشق» ضمّ القضاة والأشراف فى دولته. وبذلك قطع «ابن طولون» اسم «الموفَّق» من الخُطبة، وفى المقابل، طلب «الموفَّق» من الخليفة «المعتمد» أن يأمر بلعن «ابن طولون» فى مساجد الدولة، فأذعن له فى اضطرار. وهكذا ظلت العَلاقة بينهما فى غير سلام حتى تُوُفِّى «ابن طولون» وخلفه ابنه «خِمارَوَيْه» فى حكم «مِصر» و«الشام» والثُّغور.
شخصيته
اتسم «أحمد بن طولون» بالذكاء والفطنة والقدرة على فَهم الشخصيات: فذُكر أنه يومًا، وهو يأكل، رأى أحد الشحاذين، فأمر خادمه أن يُعطيه دجاجة ورغيفًا وحلوى، لكن خادمه عاد إليه يخبره أنه لم يأكل!! فأمره أن يُدخله إليه، وعندما دخل الشحاذ لم يضطرب من لقاء «ابن طولون»، فأمره «ابن طولون» أن يخبره بما لديه من رسائل جاء ليقدمها إليه وأن يصدقه الخبر، آمرًا بإحضار السياط، فاعترف الرجل بما لديه. كان لدى «ابن طولون» بعض الناس ظنوا أن معرفته بحقيقة الرجل على الرغم من مظهره البسيط هو نوع من السحر، فأجابهم بأنه ليس سحرًا، ولكنه قياس وفَهم صحيح لشخصية الرجل، ثم أوضح لهم أنه رآه فى تلك الحال السيئة فقدم له طعامًا شهيًّا لكنه لم يَقرَبه، وعندما أحضره كان قويًّا رابط الجأش، فأدرك أنه ليس سائلاً وإنما صاحب خبر.
و… وعن «مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسىّ