عزيزى: اليوم يُسدل الستار على رحيلك، لتبدأ مع رحيلك رحلة جديدة، فى ظل أشهر وأيام وساعات عام جديد، يتمنى فيه كل منّا أن يمتلئ بالآمال والأحلام التى طالما حاول أن يجد لها طريقًا فى أيام عمره. فمن منا يتمنى الألم أو الحزن لنفسه أو لأعزاء عليه؟!! ومن لا يتمنى السعادة والفرح؟! من يتوقف فى الطريق بحثًا عن الضيقات؟!! ومن هو ذلك الذى لا يبحث عن السلام؟! فجميعنا نحيا فى هذا العالم بأمل جديد وإشراقة محبة وخير مع كل يوم جديد. نحمل فى قلوبنا حُلمًا بنبضات الحياة ومعانى الإنسانية السامية المطبوعة فينا طوال رحلة حياتنا، متمنين أن نحققه. وهكذا كل من امتلأت حياتهم بالمحبة والخير باتوا يحلُمون للإنسانية بمثل ما يحلُمون لأنفسهم.
لقد تمنى كثيرون أن تنتهى أنت سريعًا من بيننا! لكثرة ما لمسوه من قسوة أيامك معنا، فقد حملت كثيرًا من الآلام والضيقات إليهم. ولكنى أتساءل: أكان العيب فيك أم فينا؟! أنت الذى حملت لنا الضيقات، أم نحن البشر من طبع ملامحها على وجه أيامك؟! هل أُلقى باللوم عليك أم علينا؟! حسنًا، لن أُلقيه على أحد، ولكن سأسعى أن تكون الأيام التى اشتركنا فيها معًا هى خبرات تُعلِّمنا كيف نعيش فى عام جديد، فعلينا أن نتعلم من جميع ما مر بنا من أحداث امتلأت بالضيقات أو بالراحة.
دعنى أحدثك، أيها الصديق القديم الراحل، عن ذلك الجانب من الخير الذى تقدمه الضيقات التى تمر بنا: إنه بالضيقات يُدرك الإنسان محدوديته وضعفه، فلا يجد بديلاً خيرًا من أن يضع جميع أمور حياته بين يدى الله يدبرها له تدبيرًا حسنًا. ولكن تمهل يا صديقى! فكلماتى لا تعنى التراخى أو التواكل أو التوقف عن العمل، ولا أن نقف موقف المشاهِد للحياة، ولا عدم الاهتمام بالأحداث، إنما تعنى أن نعيش أيامنا بكمال المحبة والعمل والخير والرجاء، ساعين لإسعاد أنفسنا وكل إنسان عندما نحقق النجاح، واضعين كل ثقة لنا فى الله.
أمر آخر لا يمكننى تجاوزه فى حديثى معك: إن الضيقات تُعَد فى جوهرها نوعًا من الغربلة لحقيقة مشاعر الإنسان وأفكاره ونياته، فإنها تفصل بين أولئك الذين يتمسكون بالفضيلة إيمانًا بها وبأهميتها فى رحلة حياتهم على الأرض، وبين من يرسَُمون ملامحها وصورها فى حياتهم دون أن يعرفوها حق المعرفة سعيًا من أجل تكريم الآخرين لهم، وفرق عظيم بين حياة هؤلاء وأولئك! فمن تعلم عبور جُسور الضيقات والألم بنجاح، تقوَّت حياته وقدراته مع عبور كل أزمة، فى حين من عاش فى ظلالها دون حقيقتها تعثَّر مع اختبارات الحياة، أو قل ربما ضاعت معه معالم الطريق والإنسانية. أيضًا من تغلب على الضيقات، تعلَّم أهم قيم الإنسانية فعرَف قيمة الرحمة والود والتسامح، وقيمة أن يكون هناك وقت يحتاج إليك فيه الآخرون، وقيمة تشجيع النُّفوس المتألمة لتجتاز مِحنها، وهذا ببساطة رسالة فى الحياة. أتذكَّر مشهدًا قصيرًا من فيديو طالعته قبل بضعة أيام، ربما يوضح الأثر الإيجابى الذى يمكن أن يصنعه كل منا فى حياة الآخرين:
بينما يسير أحدهم فى الطريق، سقطت منه ورقة دون أن يدرى. حدث ذلك أمام مرأى من رجل النظافة فرمق الورقة بضيق، وبينما هو ينحنى لالتقاطها، أسرعت فتاة بأخذ الورقة، ثم دونت عليها شيئًا، وقدمتها للرجل الذى أسرع بالنظر فيما كتبته، ثم ابتسم وطوى الورقة وأمسكها! ليلتقى رجلاً متجهِّمًا يحمل عددًا من الصناديق المغلفة عائدًا إلى منزله، فوضع الورقة بين صَُندوقين، ليجد الرجل الورقة ويقرأ ما بها ويضعها بجيبه ويبتسم، ثم انتقلت الورقة من جيب الرجل إلى زوجته، ومنها إلى أحد قائدى السيارات الغاضبين، إلى أن وصلت إلى صبى صغير يطالعها فيجدها تحمل رسمًا لوجه يبتسم، وكُتب أسفله: «ابتسم»! لقد كانت رسالة الفتاة للرجل أن يتغلب على ما لديه من ضيق بالتركيز فى جوانب السعادة والأمل كى يتمكن من اجتياز مشاعره السلبية. وهكذا سرت رسالتها إلى آخرين، فحققت أن تقدم لهم يد المساعدة بفكرة إيجابية بسيطة. نعم، إن هذه هى الحياة، فنحن نملِك قوة تأثير كبيرة فى حياة من نعامله، إذ بقليل من المشاعر الطيبة والمحبة نستطيع أن نجتذب آخرين إلى الحياة والنجاح، وبقليل من المشاعر السلبية نَهدِم قوة آخرين وحياتهم. ولكن علينا أن نَحذر: البناء أو الهدم لن يَمَس الآخرين وحسْب، بل هو موجه أولاً إلى أنفسنا.
صديقى الحاضر الراحل: ربما نكون قد تعرضنا فى ظلال أيامك لبعض العثرات، ولكننا من خلالها نتعلم الصبر والجلد والإصرار على تحقيق أحلامنا. فلا أحد وُلد ومعه الصبر أو العزيمة، ولكن يوجد من قرر عدم الاستسلام لعقبات الطريق، فاكتسبت خُطواته وأيامه قوة وقدرة على الغلبة والانتصار، ويوجد من تعلَّم أن يبدل فكره وأسلوبه ويجدد أعماقه إيجابيًّا ليحقق ما يصبو إليه.
صديقى العام المنقضى الراحل بعد ساعات قليلة: إن كنا نعتبر لحظاتك قد مضت قاسية علينا، أو نراها رحيمة معنا، ففى نهاية الأمر نحن نتعلم ونقرر: فى أى وجه نرغب أن نكون؟ نحن من يختار: إما أن نكون بشرًا، وإما نَضحَى أشباه بشر!! وتظل أيامك وأيام الأعوام المقبلة تمضى بنا، لكنها جميعها إما أن تضاف إلينا وإما أن تُحسب علينا، ونحن من يجب أن يتعلم من سلبياتها قبل إيجابياتها، وكيف تثبت المحبة فينا عملاً لا قولاً، وأن تعرف أيامنا تقديم الخير لكل إنسان فهو ما يتبقى لنا منها، وما سنحمله علامة حب نحو الله. إننا نحن من عليه أن يُدرك ويخطو نحو الحق والعدل، لكى ما نعرف الطريق إلى السلام.
أما أنت أيها الصديق الجديد الوافد علينا بكل ما يحمل من أحداث، فأتمنى أن تكون علامة فارقة فى خطواتنا:
نحو تحقيق الأمن لكل نفس فقدت إحساسها بالأمان وسط اضطرابات العالم.
ونحو السعادة لكل نفس لترتفع فوق آلام الحياة.
ونحو النجاح لكل إنسان تعثرت خطواته فى الطريق، فما تزال أيامك هبة لنا من الله- تبارك اسمه- لنحقق فيه آمالنا وأحلامنا.
وأن يبدأ كل منّا فى صنع السلام، نعم: السلام، ثم السلام، ثم السلام، إنه تلك الرسالة الحقيقية التى يجب أن نعيشها، ونعمل من أجلها، فقد حقَّ القول: «طوبى لصانعى السلام، لأنهم أبناء الله يُدعون».
الإمضاء
إنسان يحلُم بعالم تسوده المحبة والسلام
و… وفى «مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى