تحدثنا فى مقالة سابقة عن زمان حكم «أحمد بن طولون»، وبنائه مستشفى للمرضى «مارستان» أو «بيمارستان»، واهتمامه بأمور الزراعة فى «مِصر» حيث قام بإصلاح «مقياس النيل» بالروضة، وعصيان «العباس» على أبيه «أحمد بن طولون» وأخذه كل ما كان فى «بيت المال» وذهابه إلى «بَرقة»، والحروب التى دارت وانتهت بالقبض على «العباس» وإلقائه فى السِّجن حتى موته، كما تحدثنا عن علاقة «ابن طولون» بـ«الموفَّق» أخى الخليفة العباسىّ التى شابتها نزاعات وصراعات حتى قطع «ابن طولون» اسم «الموفَّق» من الخُطبة، ولعن «ابن طولون» فى مساجد الدولة. وبدأنا الحديث عن شخصية «ابن طولون» المتسمة بالذكاء والفطنة.
ومن سمات شخصية «أحمد بن طولون» التى ذكرها كثير من المؤرخين أنه كان عطّاءً، لم يمسك مالاً عن كل من سأله، فقد ذكر «ابن التَّغرىّ» أن «إبراهيم بن قَراطغان» وكيله فى الصدقات قال له يومًا: «ربما امتدت إلىّ الكف المُطَوَّقة بنعمة الله (الميسورة)، والمعصم فيه السوار (حِلية ذهب مستديرة علامة اليُسر)، والكم الناعم (علامة الاستغناء)، أفأمنع هذه الوظيفة (أفأمتنع عن التصدق)؟ قال له: ويحك! هؤلاء المستورون الذين يَحسِبهم الجاهل أغنياء من التعفف، احذر أن ترُدّ يدًا امتدت إليك!». وكان عند دخول «أحمد بن طولون» إلى «دمَِشق» أن شب بها حريق فى كنيسة بُنيت على اسم «السيدة العذراء»، وبينما «ابن طولون» سائرًا لتفقد آثار الحريق، وكان يصحَبه كل من «أبوزرعة النصرى» وكاتبه «أبو عبدالله»، سأل عن اسم ذلك المكان فقيل له إنه كنيسة مريم، فقال «أبو عبدالله» الكاتب: أكان لـ«مريم» كنيسة؟ أجاب «أبوزرعة»: إن الكنيسة ليست من بناء «مريم»، ولكنها بُنيت على اسمها. فنهى «ابن طولون» كاتبه «أبا عبدالله» قائلاً: مالك والاعتراض على الشيخ! ثم وهب سبعين ألف دينار من ماله تعويضًا لكل من احترق له شىء، فقدموا الأموال لهم وتبقى من المال أربعة عشَر ألف دينار. كذلك أمر بإعطاء فقراء «دمَِشق» و«الغَوطة» أموالاً.
أيضًا اهتم «ابن طولون» بإطعام المحتاجين: فجعل فى مدينة «القطائع» مطابخ تُعِد طعامًا للمساكين والفقراء فى كل يوم، فكان يذبح البقر والغنم ويقدم للناس. وقد ذُكر أنه كان يعمل مأدَُبة كبيرة ينادَى بها فى شوارع «مِصر» لمن يرغب حضورها، أما «ابن طولون» فكان يأمر بفتح جميع أبواب الميدان، وهو جالس أعلى قصره يشاهد بسرور الناس يأكلون ويحمّلون الطعام، فيشكر لله نعمه. وقد أثنى على خصال «ابن طولون» بعض المؤرخين فقال «ابن الأثير»: «وكان عاقلاً حازمًا، كثير المعروف والصدقة، متدينًا، يحب العلماء وأهل الدين. وعمِل كثيرًا من أعمال البِر ومصالح المسلمين»، كما قال عنه «شمس الدين الذهبى»: «كان بطلاً شجاعًا، مقدامًا، مهيبًا، سائسًا، جوادًا، ممدَّحًا، من دهاة الملوك».
إلا أن هذه الصفات الحميدة كانت تصحُبها خصال أخرى جعلت المؤرخين ينتقدونه! فيذكر «ابن التَّغرى» عنه: «وكان جميع خصال (ابن طولون) محمودة، إلا أنه كان حاد الخلق والمزاج، فإنه لما وُلى (مِصر) و(الشام) ظلم كثيرًا وتعسف وسفك كثيرًا من الدماء، يقال: إنه مات فى حبسه ثمانية عشَر ألفًا»، وقال عنه «الذهبى»: «لكنه جبار، سفاك للدماء»، ويصفه «مصطفى صادق الرافعى» فى كتابه «من وحى القلم»: «كانت له يد مع الملائكة ضارعة، ويد مع الشياطين ضاربة»!! وقد ذكرت رواية تقول إن «ابن طولون» رأى حُلمًا: كأن الحق قد مات فى بيته! فاستيقظ فزعًا، وسألَ مفسرى الأحلام عن معنى ذلك الحُلم الذى أخذ يؤرقه فلم يجبه أحد، حتى سأله أحدهم الأمان فيما يقول فأعطاه إياه، فقال له: «أنت رجل ظالم! قد أمَتّ الحق فى دارك!!».
«أحمد بن طولون» والأقباط
فى أثناء حكم «ابن طولون» على «مِصر»، كان يرأس كرسىّ مار مرقس «البابا شنودة الأول» الخامس والخمسون فى بطاركة الإسكندرية. ويُذكر أنه كان يشعر تجاه الأب البطريرك بنوع من النفور وعدم المحبة بسبب أنه كان يعتقد أن البابا قادر على مقاومته، فكان يتحين الفرص لاضطهاد الأقباط. إلا أنه فى الوقت نفسه علِم «ابن طولون» أن أقباط «مِصر» يتمتعون بمهارات كبيرة فى الصناعات والوظائف، فطلب مهندسًا قبطيًّا بارعًا هو «سعيد بن كاتب الفرغانى»، وكما ذكرنا سابقًا فإنه طلب منه عمل قناة مائية لتصل المياه مدينة «القطائع»، فقام بعمل قناة عجيبة نالت إعجاب كل من رآها، ولكن تعثَّر جواد «ابن طولون» فى كومة تراب فأمر بحبس المهندس. و… وعن «مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى