استكملنا فى المقالة السابقة بعضًا من سمات شخصية «أحمد بن طولون» التى ذكرها كثير من المؤرخون، مثل أنه لم يكُن يرُد سائلاً، واهتمامه بإطعام المحتاجين. إلا أن تلك الصفات الحميدة كانت ترافقها خصال أخرى كاحتداد الخلق وتقلب المزاج! حتى قيل عنه إنه كان جبارًا سافكًا كثيرًا من الدماء! ثم عرضنا لأحداث وفاته، حيث أصابته هَيضة (كوليرا) أخذت تشتد به إلى أن تُوفى عام 270هـ (884م)، بعد حكمٍ استمر ست عشْرة سنة. أمّا عن عَلاقته بالأقباط، فيُذكر أنه كان يشعر تجاه الأب البطريرك «البابا شنودة الأول» بنوع من النُّفور وعدم المحبة، فكان يتحين الفرص لاضطهاد الأقباط.
طلب «ابن طولون» من المهندس القبطىّ «سعيد بن كاتب الفرغانىّ» عمل قناة مائية لتصل المياه مدينة «القطائع»، فقام بالعمل على أحسن وجه، ولٰكن حدث أن تعثَّر جواد «ابن طولون» فى كومة تراب، فأمر بحبس المهندس! وظل حبيسًا فى سجنه حتى علِم بأمر الجامع الذى يرغب «ابن طولون» بناءه.
وقد أراد «ابن طولون» أن يقيم جامعه على ثلاثمائة عمود رخامىّ، فأُخبر أنه لن يتمكن من الحصول على مثل ذٰلك العدد، إلا بهدم الكنائس! ويذكر «القس منَسَّى يوحنا» فى كتابه «تاريخ الكنيسة» أنه بينما كان «أحمد بن طولون» يستمع ذات يوم إلى آيات من «القرآن»، أدرك أنه لا يجوز استعمال أدوات مسروقة فى بناء الجوامع، فصاح قائلاً: «إنه يستحيل علىّ تشييد الجامع دون نهب موادّه من الكنائس، فإننى ما سمِعتُ من يوم وجودى أن جامعًا بُنى دون أن تؤخذ أعمدته من كنائس المَسيحيِّين! وحيث إنه لا يمكننى مخالفة هٰذا الأمر، فسوف أخالفه، وأستغفر ربى عن هٰذا الذنب، إن لم يكُن بناء الجامع كافيًا للغفران».
سمِع المهندس «سعيد بن كاتب» هٰذا الأمر، وهو فى حبسه، فأرسل رسالة إلى «ابن طولون» يخبره أنه قادر على بناء الجامع الذى يطلبه دون احتياج سوى عمودين فقط من الأعمدة الرخامية: هما عمودا القِبلة. عندما قرأ «ابن طولون» الرسالة، تذكر المهندس القبطىّ، واستحضره، وعهِد له ببناء الجامع، وبالفعل شيد جامعًا كما رسم «ابن طولون»، دون هدم الكنائس، يُعد من التحف المعمارية العظيمة التى تعود لأكثر من ألف عام، شاهدًا على عبقرية المهندس الذى أنشأه، وقيل: «وخلع «ابن طولون» على المهندس خِلعة (ألبسه ثيابًا) فاخرة، وقرر له راتبًا يتقاضاه مدة حياته». لٰكنه فيما بعد طلب من ذٰلك المهندس أن يترك دينه فرفض؛ فأمر بقطع رأسه.
«ابن طولون» و«سعيد بن تَوْفِيل»
كان «سعيد بن تَوْفِيل» طبيبًا قبطيًّا متميزًا خدم فى مستشفى «ألبيمارستان»، ثم صار طبيبًا خاصًّا لـ«ابن طولون»، وقد قال عنه «ابن أبى أصيبعة»: «سعيد بن تَوْفِيل» كان طبيبًا نصرانيًّا متميزًا فى صناعة الطب، وكان فى خدمة «أحمد بن طولون» من أطباء الخاصَّة، يصحبه فى السفر والحَضَر (المدن والقرى والريف)، وتغير عليه قبل موته. ويُذكر أن ذٰلك بسبب ما اعتراه من مرض فى «الشام»ـ كما ذكرنا سابقًا: فقد منعه «ابن توفيل» فى «الشام» عن بعض الطعام، لٰكن «ابن طولون» أكله وتأذى، ثم بعد عودته ازداد مرضه، ولم يستمع لنصائح «سعيد بن تَوْفِيل» فى الامتناع عما يضره من طعام، بل غضِب عليه، وأمر بضربه بالسياط مائتى سوط! ثم طيَّف به على جمل ومات بعد يومين! وكان ذٰلك سنة 269هـ (882م)، وإن كان تاريخ وفاته قد اختلف فيه المؤرخون.
«ابن طولون» والفيلسوف القبطىّ
ذكر المؤرخ أبوحسن بن علىّ المسعودىّ أن أحمد بن طولون بلغته أخبار عن فيلسوف قبطىّ بلغ من العمر ثلاثين بعد المائة! قد جال فى أثناء حياته بلادًا كثيرة، حتى بلغ به المُقام فى صَعيد مِصر، فأمر ابن طولون باستحضاره إليه مكرَّمًا، ويُذكر عنه: وقد كان «أحمد بن طولون» بـ«مِصر»، بلغه- فى سنة ستين ومائتين ونيّف- أن رجلاً بأعالى بلاد «مِصر» من أرض الصَّعيد له ثلاثون ومائة سنة، من الأقباط، ممن يشار إليه بالعِلم من لدُن حداثته، والنظر والإشراف على الآراء والنِّحل من مذاهب المتفلسفين وغيرهم من أهل المِلل، وأنه علاّمة بـ«مِصر» وأرضها من بَرها وبحرها وأخبارها وأخبار ملوكها، وأنه سافر فى الأرض، وتوسط الممالك، وشاهد الأمم.. وأنه ذو معرفة بهيئات الأفلاك والنُّجوم وأحكامها.. فلما مثل بحضرة «أحمد بن طولون» نظر إلى رجل دلائل الهَرَم (أقصى الكِبَر والضعف) فيه بيِّنة، وشواهد ما أتى عليه من الدهر ظاهرة، والحواس سليمة!
والعقل صحيح! يفهم عن مخاطبه، ويُحسن البيان والجواب عن نفسه، فأمر ابن طولون بإعداد مكان مخصوص لإقامته، وقضَّى معه أيامًا وليالى كثيرةً يستمع إليه، وسأله عن بعض معالم مِصر، مثل: بحيرة تنيس، ودِمياط، وملوك الأحباش وممالكهم، ومنابع النيل، فقال له: البحيرة التى لا يدرَك طولها وعرضها، وهى نحو الأرض التى الليل والأرض فيها متساويان طول الدهر، وهى تحت الموضع الذى يسميه المنجمون «الفلك المستقيم»، وما ذكرت فمعروف غير منكَر. ويعلق المؤرخ الكنسى القس منسَّى يوحنا على ذٰلك: ومعلوم أن العلماء والمستكشفين لم يهتدوا إلى منابع النيل إلا فى القرن الثامن عشَر، ولٰكنها كانت معروفة لذٰلك العالم القبطىّ، قبل ذٰلك بألف وستمائة سنة! وما البحيرة التى أشار إليها سوى «بحيرة ألبرت نِيانزا» التى اكتشفها «اسبِيك» عند خط الاستواء. كذٰلك سأل ابن طولون الفيلسوف القبطىّ عن كيفية بناء الأهرام، وما عليها من نُقوش وكتابة، وأول من سكن بمصر، ومناطق استخراج الرخام فيها، ومدينة العقاب، والفيوم، وبلاد النوبة. وظل الفيلسوف القبطىّ مقيمًا عند أحمد بن طولون قرابة عام، وكان يجتمع إليه فى حضور بعض من العلماء والفلاسفة والمقربين إليه، وفى أحيان أخرى منفردًا، وقيل إنه قدم له العطايا، لٰكنه أبى إلا أن يقبل شيئًا منها، ثم رده ابن طولون إلى بلاده سالمًا.
وقبل وفاة أحمد بن طولون، فى فترة مرضه الشديد، طلب من المسلمين والأقباط واليهود أن يقيموا الصلوات والدعاء، من أجل شفائه ففعلوا، فيذكر ابن التَّغْرىّ: ولما اشتد مرضه، خرج المسلمون بالمصاحف، واليهود والنصارى بالتوراة والإنجيل، والمعلمون بالصبيان، إلى الصحراء ودعَوا له. وبعد موت ابن طولون، تولى الحكم ابنه خِمارَوَيْه الذى لُقب بأبى الجيوش، وسيأتى الكلام عنه فى حينه، وذٰلك فى عصر الخليفتين المعتمد والموفق، و… وعن مِصر الحلوة، الحديث لا ينتهى.
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأرثوذكسىّ