ذات يوم، كتب المؤرخ اليونانىّ «هيرودوت» قائلاً: «مِصر هبة النيل»، وهنا يعلق الكاتب المؤرخ البريطانىّ «أرنولد توينبى» على هذه الكلمات فى سرد لقصة تاريخ البشرية قائلاً: «وقد أكد (هيرودوت) المؤرخ اليونانىّ الذى عاش فى القرن الخامس ق. م. أن (مِصر هبة النيل). فكان آنذاك يفكر بالطمى الذى كان النهر يُلقى به، والذى ظل يجدده بزيادة سنوية حتى تم إنشاء (سد أُسوان) سنة 1902م»، لنجده يتحدث عن صناع الحضارة، أهل تلك البلد، فيقول: «إلا أن يكون أقرب إلى الصواب القول إن (مِصر) هى الهبة التى قدمها المِصريُّون سكان البلاد فى الزمن السابق للأُسر وزمان الأُسر الأُولى إلى الأجيال المتعاقبة»، فيرى «توينبى» أن نهر «النيل» هبة الله إلى «مِصر» قد وُضعت فى أيدٍ أمينة صنعت الإنجازات وقدمت الحضارة، فيذكر: «وهبة (النيل) لم تزَد على تزويد المواد الخام التى قلبت المستنقع- الغاب الغرينىّ- إلى جنة غرينية. أمّا تطور الأراضى البرية أصلاً إلى الأرض المِصرية الخصبة، فقد تم إنجازه بسبب ما كان للمِصريِّين أنفسهم من نشاط اجتماعىّ وجِدّ ومهارة وقدرة إدارية»، وقد أوضح تلك الفكرة المؤرخ المِصرى العبقرى د. «جمال حمدان» فى كلماته التى تقول: «(مِصر هبة النيل) طبيعيًّا، و(هبة المِصريِّين) حضاريًّا». كما ذكر المؤرخ المِصرىّ أ. «محمد شفيق غربال»: «مِصر هبة المِصريِّين». لقد تحدثنا فى المقالة السابقة عن «مِصر» أرض الخيرات. واليوم، أود أن أتكلم عن علاقة المِصريين ببلادهم التى تُعد جزءًا لا يتجزأ من حضارتها، فهم صناع الحضارة المِصرية التى اقتفى العالم آثارها.
■ الطريق إلى الحضارة
يذكر الكاتب المؤرخ «ول وايرل ديورانت» أن الحضارة: «تبدأ حيث ينتهى الاضطراب والقلق، لأنه إذا ما أَمِن الإنسان من الخوف، تحررت فى نفسه دوافع التطلع وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضى فى طريقه إلى فَهم الحياة وإزهارها». كذلك أكد أهمية دور العوامل الجغرافية من أجل الحضارة لأنها تهيئ السبيل إلى ازدهارها، أمّا العامل الأساسى، فكان فى العوامل الاقتصادية عندما بدأت أولى خطوات البشرية نحو الحضارة واتجه الإنسان إلى «الزراعة»، فيقول: «أول صورة تبدت فيها الثقافة هى (الزراعة)، إذ الإنسان لا يجد لتمدُّنه فراغًا ومبررًا إلا متى استقر فى مكان يفلِّح فيه تربته ويخزّن فيه الزاد ليوم قد لا يجد فيه موردًا لطعامه، فى هذه الدائرة الضيقة من الطمأنينة- وأعنى بها موردًا محققًا من ماء وطعام- ترى الإنسان يبنى لنفسه الدُّور والمعابد والمدارس، ويخترع الآلات التى تعينه على الإنتاج…».
كان المِصريُّون هم أول من وعَوا تلك الحقائق، وبدأوا يخْطون خطواتهم الأولى نحو التحول من المجتمع البدائىّ الذى يعتمد على الصيد إلى مجتمع زراعىّ مستقر فيصيروا مكتشفى الزراعة فى القارة السمراء، فى الوقت الذى كان العالم مايزال تائهًا فى الدرب. ولم يكُن ذلك بالأمر السهل، فيذكر لنا د. «وليم سليمان قلادة» أن ما قام به آباؤنا المِصريُّون الأوائل قبل آلاف السنين وبداية الدولة الفرعونية القديمة كان إنجازًا بطوليًّا: «… هبط هؤلاء الرواد الأبطال إلى مستنقعات الوادى الذى كان يسير فيه (النيل)، التى لم يسبق لبشر التوغل فيها، فأخضعوا طيش الطبيعة لإرادتهم، وحولوا مستنقعات الأدغال إلى مجموعة منسقة من المدرجات والحقول. واستعانوا فى ذلك بأسمى ملَكات البشرية: الإبداع الواعى. هذا هو إنجاز الأقلية المبدعة فى نشأة الحضارة». ويقدم «توينى» صورة الإنجاز المِصرىّ قائلاً: «أمّا فيما يتعلق بتنظيم المياه فى حوض مجرى (النيل) الأدنى، إلى الشمال من الشلال الأول، فقد حوفظ عليه إلى يوم الناس هذا. وهذا التنظيم هو الذى مكّن المِصريِّين من قلب المستنقع- الغاب السابق- من أرض ماحِلة (مُجدِبة) قاسية إلى حقول ومراعٍ خصبة».
خُطت صفحات التاريخ الأولى أنه حين واجه المِصرىّ القديم البيئة البدائية التى تحتاج إلى العمل الشاق والجهد المضنى، لم يتراجع عن هدف الحياة والاستقرار، ولم يقِف موقف المشاهد من تلك الصعوبات، ولم ينتظر من يأتونه بالحلول المريحة التى تحقق له أحلامه بأسلوب جديد فى الحياة، بل تحمل العناء والشقاء دون توقف أو استسلام، حتى استطاع أن يحقق ما أراده من تغيير «المسطح الطبيعىّ إلى إقليم حضارىّ بالجهد والعرق والإبداع»، ويؤكد ذلك «ديوارنت»: «وقد بدأ سكان وادى «النيل» من ذٰلك العهد السحيق أعمال الريّ، وقطعوا الأدغال، وجففوا المستنقعات، وتغلبوا على تماسيح النهر وأفراسه، ووضعوا أسس الحضارة على مهَْل.».
هٰكذا قدمت «مِصر» بأبنائها سبقًا حضاريًّا أصيل المِصرية فى مجال «الزراعة»، ومنه انطلقت جميع الإنجازات الأخرى، فقدم المِصريُّون: «التقويم الشمسيّ»، و«العلوم»، و«الكتابة» التى أحدثت ثورة هائلة فى العالم، وفن «الهندسة» المِصرية التى فاقت مثيلاتها لدى «اليونان» أو «الرومان»، أما أكبر مفخرة علمية للمِصريِّين كما يذكر «ديورانت»، فهى فى علم «الطب»: فلم يعرِف التاريخ طبيبًا بارعًا مثل «إمحُوتِب» الذى كان أبا الطب حتى صار عند المِصريِّين إلهًا للعلم!! وإلى جانب كونه طبيبًا، كان «إمحُوتِب» مهندسًا!! ويُذكر أنه هو من وضع تصميم «هرم سقارة» المدرَّج الذى ظل شاهدًا على عبقريته آلاف السنين حتى يومنا هذا، كذٰلك يعود الفضل إليه فى إيجاد أبرع مهندسى التاريخ الذين شيدوا من الآثار ما بَهَر العالم، وقد اتخذه الملك «زوسَر» كبيرًا لمستشاريه. ويُقر العلماء أن ما حققه العالم من ثوْرات حضارية كان ملهَمًا من الحضارة المِصرية والمِصريِّين التى تتبعوا خطاها، وأن «مِصر» كانت أسبق دول العالم فى كثير من جوانب الحياة.
■ محبة لا تنتهى
لقد كان العمل من أجل بناء الحضارة هو ما ربط المِصرىّ القديم بـ«مِصر»، ومن بعدئذ توحدت البلاد سياسيًّا فى إقليم واحد تحت قيادة واحدة لتصبح أقدم دولة فى التاريخ البشرى. فيقول «توينبى»: «توحدت (مِصر العليا) و(الدلتا) سياسيًّا عند فجر المدنية المِصرية الفرعونية». وعلى الرغم من قسوة الحرب، فإن: «مِصر كسَبت بهذا الثمن وَحدة سياسية، ومن ثم سلامًا ونظامًا فى الداخل. وهذه الهبات استمرت مدةً تَزيد على الثلاثة آلاف سنة من التاريخ المِصرىّ الفرعونى.. وقد كان هذا مظهرًا للتعاون البشرىّ الجماعىّ لم يسبق إليه مثيل»، وهكذا ارتبط المِصرىّ بأرض «مِصر» التى عبّر عن محبته الشديدة لها فى آدابه وفنونه ومعتقداته، فقد شبّهوا «مِصر»: «بالقلب لأنها دافئة ورطبة وحبيسة فى الجزء الجنوبىّ من المعمورة، ومقيمة به كالقلب فى الجانب الأيسر من جسم الإنسان»، فلا عجب أن يتردد عن «مِصر» أنها قلب العالم. ومع المِصريِّين، بدأ التاريخ، واستمر الإبداع المِصرى، فى رحلة طويلة عبر الزمان و… وعن «مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى