تحدثنا فى المقالة السابقة عن «مِصر» هبة النيل وهبة المِصريِّين القدماء، ليس لنا فحسب بل للعالم: فأجدادنا هم أول من خطُوا وصنعوا الحضارة التى بدأت مع استقرارهم والزراعة، ليجعلوا من أرض «مِصر» واحة خضراء بالعمل والجهد، ليرتبط المِصرىّ ارتباطًا وثيقًا بأرضه ووطنه فهو الدفء والقلب معًا، وتظهر هذه المحبة الدافئة فى جميع الأوقات، وإن كانت تتجلى فى الشدائد والمحن. وهكذا زُرعت محبة الوطن فى قلوب الأجيال وتناقلتها سنين بعد سنين حتى اليوم.
لم تكُن «مِصر» هى الجنة والدفء والقلب عند أبنائها فقط، بل هكذا كان يراها العالم، وهكذا كانت فى الكتب المقدسة التى وصفتها بالجنة وشعبها بالحكمة، فصارت على مر التاريخ ملجأً لرجال الله القديسين، ثم «للعائلة المقدسة» التى جالت وعاشت فى رُبوعها- كما ذُكر فى مقالات سابقة. وفى العصر القبطىّ، اهتمت الكنيسة القبطية بغرس حب الوطن وقيمة الأرض فى قلوب أبنائها: فقدَّمت فى طقوسها الصلوات والطلبات من أجل مياه «النيل»، ومباركة الأرض، والزروع، والحصاد، وأن يرعى الله شعبها. ويسرِد لنا د. «وليم سليمان» قصة تعبّر عن مدى محبة الأقباط المِصريِّين لبلادهم: فيذكر أنه فى أيام الإمبراطور «دقلديانوس»، فى أثناء تعذيبه أحد المَسيحيِّين الأقباط- وكان من مدينة «تلا» بالمنيا- أن قال له الحاكم ساخطًا: «الويل لأرض (مِصر) التى جئتَ منها!». فإذا القبطىّ يجيبه، مع ما يقاسيه من آلام شديدة: «لا تسُبّ أرض (مِصر)»!! نعم، فعند الحديث عن «مِصر»، لا يتوانى أبناؤها عن الدفاع عنها بكل ما ملكوا من قوة.
امتدت أيضًا تلك النظرة التى لا تخلو من إعجاب، وتقدير يرتبط بالفكر الدينىّ الذى يُجل «مِصر» على مر الحِقَب التاريخية التى عاشتها بعد الفتح العربىّ لها، ونجد ذلك ساطعًا فى الكلمات التى خُطت فى وصفها، فنرى المؤرخ «أبا القاسم ابن عبدالحكم القُرَشىّ المِصرىّ»- الذى عاش فى أواخر القرن الثانى حتى منتصف الثالث الهجرى (187هـ- 257هـ) (800- 871م)، يقدم للأجيال التالية أقْدم كتب تاريخ «مِصر» فى العصر الإسلامىّ: فيصف «مِصر»: «… ومن أراد أن يذكر (الفردَوس) أو ينظر إلى مثله فى الدنيا، فلينظر إلى أرض (مِصر) حين تخضرّ زروعها، وتُنَوِّر ثمارُها (تُخلق فيها النَّوَى)… وكانت الجنات- بحافتَى (النيل) من أوله إلى آخره فى الجانبين، جميعًا ما بين (أسوان) إلى (رشيد) وسبعة خُلُج: (خليج الإسكندرية)، و(خليج سخا)، و(خليج دِمياط)، و(خليج مَنف)، و(خليج الفيوم)، و(خليج المنهى)، و(خليج سردوس)- جناتٍ متصلة، لا ينقطع منها شىء عن شىء. والزرع ما بين الجبلين من أول (مِصر) إلى آخرها مما يبلغه الماء…». وعن نهر «النيل»، فقد ذكر أن السُّدود والجُسور قد بُنيت عليه ما يعكس براعة المِصريِّين وقدراتهم على تطويع «النيل» من أجل خير البلاد، فقال إنهم قد أقاموا: «قناطر وجسورًا، بتقدير وتدبير، حتى إن الماء لَيجرى تحت منازلها وقنواتها فيحبسونه كيف شاءوا، ويُرسلونه كيف شاءوا». أمّا عن ملِكها فقال إنه كان أعظم ملوك العالم: «ولم يكُن فى الأرض يومئذ ملك أعظم من ملك (مِصر)»!!.
كما كتب المؤرخ «ابن الكِنْدى» (185- 256هـ) (805- 873م) يقول: «فضّل الله (مِصر) على سائر البُلدان، كما فضّل بعض الناس على بعض، والأيام والليالى بعضها على بعض…». كذلك أورد المؤرخ «ابن زولاق» (306- 387هـ) (919- 997م) أقوالاً كثيرة من العلماء عن «مِصر»، منها أنها: «أم البلاد»، «بلد مبارك لأهله فيه»، «خزائن الأرض كلها»، «سلطان الأرض كلها»، «بلد الحكمة والعلم ومنها خرج الحكماء الذين عمّروا الدنيا بكلامهم وحكمتهم وتدبيرهم». وفى وصف أبناء «مِصر»، يذكر قول «عبدالله بن عمرو»: «أهل (مِصر) أكرم الأعاجم كلها، وأسمحهم يدًا، وأفضلهم عنصرًا، وأقربهم رحمًا بالعرب عامةً، وبـ(قريش خاصة)»، ومما قيل فيهم أيضًا أنه: «لا يريدهم أحد بسوء إلا أهلكه الله»، فى حين كتب المؤرخ «المقريزى» (764- 845هـ) (1364- 1442م) عن محبته لـ«مِصر» فأنشد: «وكانت (مِصر) هى مسقط رأسى، وملعب أترابى (المماثلين لى سنًّا)، ومجمع ناسى، ومَغنَى (المنزل الذى غَنِيَت به) عشيرتى وحاميتى (جماعة جيشى)، وموطن خاصتى وعامتى.. وعُش مأرَبى (بُغيتى وأمنيتى)، فلا تهوَى الأنفس غير ذكره…»، وقال فيها الشاعر «صلاح الدين الصَّفَدىّ» (696- 764هـ) (1297- 1363م):
مَنْ شَاهَدَ الأَرْضَ وَأَقْطَارَهَا
وَالنَّـاسَ أَنْوَاعـًا وَأَجْنَاسا
وَلاَ رَأَى «مِصْرَ» وَلاَ أَهْلَهَا
فَمَا رَأَى الدُّنْيَا وَلاَ النَّاسا
هكذا كانت مكانة «مِصر» وكرامتها، ولا تزالان، لا فى قلوب أبنائها فحسب، بل فى كل من وطئت قدماه أرضها، تنبض القلوب حبًّا واعتزازًا فريدين بالانتساب إلى أرضها والسكنى فيها. وقد لاحظ المؤرخون أن الشخصية المِصرية فرضت نفسها بقوة ولم تتأثر كثيرًا عبر التاريخ بالوافدين إلى أرضها، فمع ما تعرضت له «مِصر» على مر تاريخها من غزو خارجىّ، لم يجد العلماء آثارًا واضحة من الغزاة فى تكوين الشخصية المِصرية، بل على النقيض كانت «مِصر» هى التى تؤثر فى شخصياتهم وأفكارهم، فعلى سبيل المثال نجد «بونابرت» يقول: «لو لم أكُن حاكمًا على (مِصر)، لما أصبحت إمبراطورًا على (فرنسا)!… حُلمى تجسد فى (الشرق)، فى حين كاد يتحول إلى كابوس فى (الغرب)!!… فى (مِصر)، قضيت أجمل السنوات، ففى (أوروبا) الغيوم لا تجعلك تفكر فى المشاريع التى تغير التاريخ! أمّا فى (مِصر)، فإن الذى يحكم بإمكانه أن يغير التاريخ»!!.
سرَت تلك المحبة وذلك الارتباط الذى لا ينفصم إلى المِصريِّين عبر الأزمان حتى اليوم، لذلك لا عجب أن نقرأ اليوم رسالة من أحد أبناء «مِصر» الذين قدموا حياتهم، فى أثناء دَوره الوطنىّ وواجبه نحو بلاده التى أحبها: النقيب «أحمد فؤاد حسن» الذى استُشهد حديثًا إثر هجوم إرهابىّ، حيث كان فى أحد كمائن القوات المسلحة بـ«رفح» فى «شَمال سيناء»، وكان قد كتب رسالة وأوصى بأن تُرسل إلى والدته حال استشهاده، وقد عُثر عليها فى جيب زيه العسكرىّ، ورأيت أن أقتطف بعض عباراتها: «زى ما أبويا قرر يدخلنى الجيش بعد الثورة، وخرجت منه (ملازم) قد الدنيا، كان لازم أحمى (أم الدنيا)، وعلشان كدا، بصراحة: أنا الِّلى كان عندى إصرار إنى أروح أخدم فى (سيناء).. لما تشوفى جثتى، يا أمى، إوعى تبكى أو تضعفى!! عايزك تقولى لكل الدنيا، وأنتِ لابسة أبيض فى أبيض، إنك (أم الشهيد) و(أم البطل)». وبدماء «النقيب أحمد فؤاد» امتزجت دماء الشهيد «مينا تواب» أحد أبطال «رفح» فى «سيناء» الذى كتب: «اشبعوا من وجودى مش يمكن أنا اللى أموت المرة اللى جاية». وتتجدد البطولات عبر تاريخ «أم الدنيا»، وفى حب «مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى