احتفلنا قبل أيام قليلة بذكرى رحيل رجل الصلاة «البابا كيرِلُّس السادس» السادس عشَر بعد المئة فى بطاركة الكرسى المرقسيّ، كما نحتفل بعد أيام قليلة برحيل البطريرك التالى له «البابا شنودة الثالث»؛ ولكلا البطريركين حب عميق فى وجدان الشعب المِصريّ بمسلميه ومَسيحيِّيه إذ كانا يحملان حبًّا جمًا لـ«مِصر» وأبوة حانية لجميع المِصريين.
كنا تحدثنا فى المقالة السابقة عن «مِصر أم الدنيا» التى تباركت برجال الله القديسين، وعن محبة أبنائها لها فى العصر القبطيّ حين تأصل حب الوطن فى قلوبهم ظالاًّ شعاعًا ساطعًا فى كل صفحة من تاريخها العريق، فنرى هٰذا الحب يبرز فى الكلمات التى خطها مدونو التاريخ المِصرى بعد الفتح العربيّ لها، ثم يسرى إلى المِصريِّين فى ارتباط واتحاد لا ينفصمان عبر الأزمان حتى اليوم وإلى الأبد. ولا أجد فى كلماتى اليوم إلا أن تكون صدى للحب الغائر فى قلب كل من «البابا كيرِلُّس السادس» و«البابا شنودة الثالث» نحو «مِصر»، متجليًا فى جميع أدوارهما الوطنية.
«البابا كيرِلُّس السادس»
امتلأت حياة «البابا كيرِلُّس السادس» بالمواقف الوطنية؛ فعلى الرغم من محبته لحياة التوحد والصلاة، فإنه كان يقدم مثلاً مشرقًا عن «مِصر» والمِصريِّين لكل من عرفه أو التقاه: فنجد مثلاً شَهادة د. «حسن فؤاد» مدير الآثار العربية الذى التقاه برفقة مدير «كلية اللاهوت بنيويورك» حين كان يجمع المعلومات عن الرهبنة القبطية وتاريخها فيقول: «يا أبى: لقد رفعتَ رأس الرهبان، وشرَّفتَ الرجل المِصريّ، فلك منى تحية حارة! وأرجو أن أبرهن عن عمق تقديرى واحترامى لك يومًا ما.».. وبعد أن صار بطريركًا صار أبًا للمِصريِّين جميعًا، حتى إنه كان يأتيه المِصريُّون من كل صوب وجهة تبركًا بدعواته، سائلين نصائحه ومشورته.
.. وعندما حاول العدُو الخارجىّ تفتيت وَحدة الأمة، قام فضيلة «الإمام حسن مأمون»، شيخ الأزهر، مع قداسة «البابا كيرِلُّس السادس» بإصدار بيان تاريخىّ مشترك يؤكد تضامن المِصريِّين جميعًا فى القضايا التى يخوضها الوطن، مؤكدين وَحدة الهدف والموقف تجاه جميع ما يخص «مِصر» و«الشرق الأوسط». وقد كانت أهم قضايا ذٰلك البيان هو موقف المِصريِّين من قضية «القدس»، كما كان لذلك البيان أثر مُدَوٍّ فى أرجاء العالم. كذٰلك تجلت الوَحدة المِصرية فى تلك المسيرة الشعبية التى اتفق عليها فضيلة «الإمام الأكبر المأمون» وقداسة «البابا كيرِلُّس» حين تقدماها تعبيرًا عن رفضهما لما حدث من اعتداءات على «فلسطين»، وعُدوان «إسرائيل» على «بيت المقدس» بمقدساته الإسلامية والمَسيحية. كذلك أرسل «البابا كيرِلُّس السادس» رسالة إلى «البابا بولس السادس» بابا روما قائلًا: «لا يَخفَى ما أحدثه القرار الذى اتخذته «إسرائيل» – بضم «القدس» القديمة إليها – من حُرقة عميقة فى مشاعر العرب عمومًا مسلمين ومَسيحيِّين، وليس أشقّ على ضمير الإنسان ووجدانه من عمل عُدوانىّ يَمَس عقيدته ومقدساته، عندئذ تهون عليه روحه ودمه ويحلو له أن يموت شهيدًا فى سبيل الذود عن تراثه الخالد ومجده التليد (القديم)…»، ثم يسأله فى كلمات رسالته مساندة الموقف العربىّ فيقول: «إننا طالبنا – وما زلنا نطالب، متجهين إلى الله، وإلى الضمير العالمىّ، ونسأل الله؛ لمساندة قداستكم ومعاونتنا لنكون صفًّا واحدًا فى نصرة هذه القضية العادلة…». أيضًا يُذكر «للبابا كيرِلُّس» قيامه بإدلاء عدد من الأحاديث الصحفية، وإجراء بعض الحوارات للتلفزيون الفرنسىّ من أجل «القدس» وتنفيذ قرارات مجلس الأمن، مع إصدار قداسته آنذاك قرارًا بعدم زيارة الأقباط إلى «القدس» احتجاجًا على ما يحدث من عُدوان.
وتأتى رياح العُدوان على أرض «مِصر» عند احتلال «إسرائيل» لـ«سيناء» عام 1967م، ليقدم «البابا كيرِلُّس السادس» دورًا وطنيًّا فى مساندة البلاد من خلال رسائله البابوية، وبيانات أصدرَها فى اللقاءات التى شارك فيها من ندوات ومؤتمرات شعبية؛ من أجل لمّ شمل المِصريِّين معًا لأجل اجتياز الأزمة التى تتعرض لها البلاد وقتذاك، ولتدعيم موقف الرئيس «جمال عبدالناصر»: وكيف لا يكون موقف البابا هكذا، وهو الذى قال ذات يوم للرئيس «عبدالناصر»: «إنى – بعون الرب – سأعمل على تعليم أبنائى معرفة الرب، وحب الوطن، ومعنى الأخوّة الحقة؛ ليشب الوطن وَحدة قوية لديها الإيمان بالرب والحب للوطن…»؟! وكان من أدوار قداسته المأثورة أن طلب من الإمبراطور الإثيوبىّ «هَيلاسِيلاسي» أن يتخذ موقفًا مؤيدًا لقضية «مِصر» فى «الأمم المتحدة».
ولا يمكن لذاكرة التاريخ المِصرىّ أن تضعف عن موقف «البابا كيرِلُّس» وقت أن أعلن الرئيس «جمال عبدالناصر» تنحيه عن الرئاسة فى مساء 8 /6 /1967م إثر النكسة والهزيمة: ففى صباح اليوم التالى، بينما هو يصلى قداسًا كعادته اليومية، إذا به يذكر «مِصر» ورئيسها وشعبها، ثم عقب القداس تحرك مباشرة من الدار البطريركية يصحبه وفد من الآباء المطارنة وعدد من الآباء الكهنة إلى قصر الرئاسة، حيث التقى السيد «مُحمد أحمد» سكْرِتير الرئيس «عبدالناصر»، الذى أرسل سيارة لفتح الطريق أمام سيارة «البابا كيرِلُّس»، إذ كانت الشوارع ممتلئة بالمظاهرات. وعند وصول «البابا كيرِلُّس»، لم يجد الرئيس فى قصر الرئاسة بل كان ملازمًا منزله، فترك رسالة للرئيس مع السيد «محمد أحمد»، قائلاً: «قُل له إن الأقباط متمسكين به كرئيس، وعاوزينه فى مركز القائد والزعيم للبلاد.»، ثم غادر قداسته بعد وعد بتوصيل رسالته. وكان بعد عودة البابا إلى مقره بالأزبكية أن طلب الاستعداد لقرع أجراس الكنيسة وسط دهشة الحاضرين؛ إلا أن دهشتهم لم تستمر طويلاً: فقد أعلن بعد ذلك بقليل رئيس مجلس الأمة آنذاك السيد «محمد أنور السادات» أن الرئيس «جمال عبد الناصر» نزل على إرادة الشعب!! وفى صباح العاشر من يونيو 1967م، توجه البابا إلى القصر الجمهورىّ ليخُطّ كلماته فى سجل الزيارات، معلنًا سعادته وارتياح الأقباط بقرار الرئيس واستجابته لنداء الشعب فى استكمال دوره رئيسًا للبلاد.
ولم يتوقف دور «البابا كيرِلُّس» فى تلك المرحلة الحرجة من تاريخ «مِصر»، إذ نجد محبته لـ«مِصر» تتجلى فى إصدار قداسته أمرًا بأن يقيم الشعب صلوات القداس فى جميع الكنائس القبطية من أجل «مِصر» حتى يعطيها الرب الحماية والصمود، وإذا إذاعة «إسرائيل» الموجَّهة باللغة العربية تتهكم على ذلك قائلة: «أبشِر يا «عبدالناصر»! فإن معك «كيرِلُّس السادس»، أما نحن فمعنا الأسطول السادس.». إلا أن تلك الروح الوطنية سرت فى المِصريِّين جميعًا، إذ بدأت إعادة بناء القوات المسلحة، ثم «حرب الاستنزاف» لتخسر «إسرائيل» كثيرًا من العتاد والأفراد و… وفى حب «مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأرثوذكسىّ