تحدثنا فى المقالتين السابقتين عن تلك المحبة التى ملأت قلب وحياة كل من «البابا كيرِلُّس السادس» و«البابا شنودة الثالث» للوطن، كما سردنا بعض مواقفهما الوطنية التى اتسمت بها حياتهما فى أحلك الفترات التى مرت بـ«مِصر»، فكان لكلٍّ دور إيجابى مؤثّر فى المشهد الوطنى التاريخى. لم يكُن دورا «البابا كيرلس السادس» و«البابا شنودة الثالث» تجاه «مِصر» نابعَين من مشاعر الواجب بصفتيهما بطريركين على كرسى كنيسة الإسكندرية فقط، بل هو نتاج فيض مشاعر حب متدفقة نحو الوطن الذى يشاركانه آلامه وأتعابه، ويسعدان بنموه وتقدمه، ويعملان بلا كلل أو ملل من أجل شعبه؛ إنهما أيقونتان ارتسمتا بحب الوطن على صفحات التاريخ المِصرى وفى قلب كل مِصرى عاش على أرض هذا الوطن وفى فكره وسلوكه. ودعونا نُلق نظرة سريعة على صفحات من التاريخ الحديث التى شهِدت حب المِصريِّين معًا لوطنهم.
الحملة الفرنسية
قدِمت الحملة الفرنسية إلى «مِصر»، بعد أن أدرك إمبراطورها وقادتها أهمية «مِصر» ودورها فى العالم، لتجعل منها مقاطعة فرنسية، لكن المِصريِّين معًا مسلمين ومسيحيِّين رفضوا وقاوموا كل عُدوان يحاول سلب الوطن. وفى ظل قيادة حاكم «الإسكندرية» الشيخ «مُحمد كُريِّم»، قاتل الأقباط والمسلمون فى «الإسكندرية» وفى «إمبابة»، واختلطت الدماء المِصرية تروى الأرض. وفى كتابات المؤرخين، ومنهم أ.«محمود الشرقاوى» كتب: «أمّا موقف الأغلبية من الأقباط، وعلى رأسهم كبيرهم «جرجس الجوهرى»، فهو نفس موقف إخوانهم المسلمين: وهو «كفاح ضد المحتلين»؛ فقد اشترك الأقباط مع إخوانهم المسلمين فى معركة «إمبابة» ضد الفرنسيِّين. وقد ذكر «ريو» ـ أحد مؤرخى الحملة ـ أنه كان فى «إمبابة» اثنا عشَر من الفلاحين معهم أربعون مِدفعًا، وكان منهم كثير من العرب والأقباط والأحباش. لقد سارع الأقباط يحاربون الفرنسيِّين إلى جانب أبناء وطنهم فى «موقعة إمبابة». إلى أن قال: «نجد بعض المَسيحيِّين يُسجن فى القلعة مع المسلمين لحربه الفرنسيِّين كما سُجن «المعلم نقولا» ـ وكان رجلًا ذا مكانة، ونجد الأقباط يحاربون ويُقتلون فى «معركة إمبابة» ضد «نابُليون».
وقد قرأت قصة حدثت فى أثناء تلك الحقبة توضح مدى عمق الترابط بين أعضاء الشعب الواحد: فقد حدث فى أثناء الثورة على الاحتلال الفرنسى أن زُج فى السجن بشخصين بعد اتهام الفرنسيِّين لهما بترويج الإشاعات ضدهم، وكان أحدهما مسلما والآخر قبطيا، ثم حُكم على كل منهما بدفع غرامة قدرها مئة ريـال، وإن لم يتمكنا من الدفع تكُن عقوبتهما هى قطع لسان كل منهما ليصبحا عبرة لأى شخص تسول له نفسه أن يتحدث بسوء عن الفرنسيِّين! وبالطبع كان المبلغ باهظًا وليس فى طاقة يد أى الرجلين؛ فحاول بعض العلماء التدخل لدى السلطات الفرنسية من أجل إطلاق سراحهما، لٰكن هيهات! فسارع الشيخ «مصطفى الصاوى» بدفع مبلغ المئتى ريـال ليطلق الرجلين من سجنهما، بعد أن استدان بهما لأحد أصدقائه! وهنا سأله الفرنسيُّون: كيف تدفع فدية قبطى؟! فأجاب: «إن الرجلين المسلم والقبطى من أبناء «مِصر» أصحاب الحق فى الحياة على الأرض، كما أن المسلم السجين أعلن أنه لن يغادر زِنزانته فى «سجن القلعة» إلا متى أفرجوا عن زميله القبطى». وهكذا غادر الرجلان معًا سجنهما، واستقبلهما الشعب بالاحتفال حتى وصل بهما إلى جامع «الأزهر» ثم «الكنيسة المرقسية بالأزبكية»؛ وهكذا عاش الشعب الواحد المحب لبلاده.
ثورة «عرابى»
كان الزعيم «أحمد عرابى» قائدًا للمِصريِّين، جمع من حوله كبار المفكرين مثل «عبدالله النديم» و«أديب إسحاق»؛ وكان فى كفاحه يؤمن أن قوة الشعب عند التصدى للأخطار التى تُحدق به تكمن فى وَحدته. وفى خضمّ تلك الأحداث، نرى القيادات: المسلمة متمثلة فى «شيخ الأزهر»، والمَسيحية متمثلة فى «البابا كيرلس الخامس»؛ يشتركان معًا فى رفع التماسهما إلى «الخِدِيو إسماعيل»، مطالبَين بوَزارة وطنية، وإقالة وزير المالية الإنجليزى فى الحكومة المِصرية: سير «تشارلز ريفرس ويلسون». ولا يمْكن التاريخ أن يمحو من ذاكرته الاجتماع الوطنى الذى تصدّره الإمام «مُحمد عبده» وحضره «البابا كيرلس الخامس» من أجل رفض مواقف «الخِدِيو توفيق» المنحازة إلى الإنجليز.
«ثورة 1919م»
هبت نسمات التاسع من مارس عام 1919م، حاملةً معها هبّة المِصريِّين جميعًا برئاسة الزعيم «سعد زغلول» من أجل حرية الوطن، وهم يحملون فى أفكارهم ومشاعرهمـ رجالًا ونساءً ـ شعار الثورة: «الوطن للجميع»، أما الدين فهو لله. ومن أحداث تلك الحقبة التى خطها التاريخ: حين أثارت الثورة الوطنية حفيظة الإنجليز فألقَوا بقنابلهم على المتظاهرين فى «أسيوط» و«ديروط»، وأرسلوا جنودهم لمقاومة حركة المِصريِّين الشعبية فى «أسيوط» وفى «أُسوان»، قام مدير المدرسة القبطية، وهو يقود طلابه، بقطع خطوط السكك الحديدية وأسلاك البرق، وحبسوا المدير الإنجليزى. كذلك لا يمكننا إلا التوقف أمام شخصية «البابا كيرِلُّس الخامس» الذى كان يؤيد الثورة المِصرية فجعل من الكنائس منابر للخطباء، وطلب من القساوسة أن يعاونوا شيوخ «الأزهر» لتوعية المِصريِّين وشحذ هممهم من أجل الاستقلال. كذلك كان «البابا كيرلس الخامس» على عَلاقة وثيقة بالزعيم «سعد زغلول»؛ فكانت اللقاءات بينهما متكررة، وكان يدعو له بالبركة وبالتوفيق فى كل خطواته من أجل «مِصر». وقد ظل البابا مرتبطًا بزعيم «مِصر» وبالثورة حتى نياحته عام 1927م. وعند نياحة «البابا كيرلس الخامس»، نشرت «مجلة المصور»، فى عددها رقْم 148 الصادر يوم الجمعة 12 /8 /1927م، صورة كبيرة للبابا، وكتبت: «وافت المنية، فى صباح يوم الأحد الماضى، عظيمًا من عظماء «مِصر»، ورئيسًا دينيًّا كبيرًا أدى فى حياته دورًا مهمًّا فى تاريخ هذه البلاد: وهو مثلث الرحمات «أنبا كيرلس الخامس» بطريرك الأقباط الأرثوذكس.. ويعود إليه ـ رحمِه الله ـ الفضل فى اتحاد العنصرين اللذين تتألف منهما الأمة المِصرية؛ فقد وقف فى أثناء الحركة الوطنية موقفًا أطلق الألسنة بالمديح والثناء. وكان صاحب الدولة الزعيم الجليل «سعد زغلول باشا» يُجله ويحترمه، والبلاد تنظر إليه نظرها إلى زعيم من زعمائها الدينيِّين والسياسيِّين».
إن الوطنية المِصرية لا تعرف إلا الوطن وكرامته ومحبته، ولا ترضى إلا بعزته وكرامته؛ وقد كانت مثالاً بَهَر كل من رآه أو قرأ عنه. والوطن اليوم يطلب من الجميع أن يوحدوا القلوب والنفوس من أجل بنائه واستعادة مكانته وريادته للأمم، كما يطلب من أبنائه أن يتكاتفوا بإيجابية فى مؤازراته والعمل من أجل رفعة شأنه؛ وكما استجاب المِصريُّون لنداء الوطن فى كل الأزمان هكذا يكون كل الأيام. و… وفى حب «مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى