أود أن أبدأ مقالة اليوم بالتهنئة: فحين نتحدث عن «المِصريِّين» فى «مِصر الحلوة» لا يمكننى إلا التوقف عند المشاهد الوطنية الخالصة مِصريتها، ومنها تلك التى تجلت على مدار ثلاثة أيام هى مدة انتخابات الرئاسة لعام 2018م شاهدة كثيرا من المواقف الإنسانية العميقة التى سطّرت مزيدا من الصفحات المضيئة لتاريخنا المِصرى؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر: رأينا زوجة تحمل زوجها المريض إلى لجنة الانتخابات ليدلى بصوته! فتقدِّم للعالم درسا عمليا فى وطنية المِصريِّين المعتادة المعهودة التى طالما شهِدتها «مِصر» عبر تاريخها العظيم، كما رأينا إصرارا مِصريا آخر من إحدى السيدات المريضات التى صوتت بعد أن نُقلت إلى لجنتها الانتخابية بعربة إسعاف!! وهٰكذا تعددت قصص البطولات فى حب «مِصر». أقدم التهنئة للسيد رئيس الجمهورية الذى نال محبة شعبه أولاً، ولفوزه فى انتخابات الرئاسة المِصرية ليبدأ رحلة جديدة من العمل والكفاح يسانده أبناء الشعب المِصرى من أجل إعادة «مِصر» إلى ريادتها العالمية، كما أقدم تهنئتى لكل مِصرى شارك فى حب «مِصر» وفى تدوين صفحة جديدة مشرقة من صفحات تاريخها العريق، متمنيا لـ«مِصر» وشعبها كل خير وسلام وبركة.
اليوم يحتفل أقباط «مِصر» بـ«عيد أحد السعف» أو «عيد الشعانين» ذكرى دخول السيد المسيح فى احتفال جماهيرى مهيب إلى مدينة «أورُشليم» «القدس»، حيث استُقبل بالأغصان وبالهُتاف وبفرش الثياب أمامه تحقيقا لنبوة «زكريا النبى» الواردة فى «العهد القديم»: «ابتهجى جدًّا يا ابنة صهيون، اهتِفى يا بنت أورُشليم. هو ذا ملكُكِ يأتى إليكِ، هو عادل ومنصور وديع، وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان»، وهكذا تقدم السيد المسيح ملكا، إلا أن مُلكه كان على قلوب أحبته من بسطاء الشعب إذ جال وسطهم يصنع لهم الخير ويرفع عنهم آلامهم وأمراضهم وأحزانهم، فى محبة عجيبة، وتحنن فائق، ورفق شديد بالضعفاء والمتألمين. ويذكر المؤرخ اليهودى «يوسيفوس» أن عدد من استقبل السيد المسيح فى تلك الرحلة التى قطعها محاطا بالجموع فى الطريق إلى «أورُشليم» حتى دخولها كان كبيرا جدا: بلغ المليونين ونصف المليون نسَمة تقريبا!! حضروا للاحتفال بالعيد، مستقبلين إياه بسَعَف النخل وهُتاف عظيم ارتجت له المدينة. وإزاء ذلك المشهد المهيب، أتوقف عند بعض المفاهيم الجديدة.
مفاهيم جديدة
يقدم لنا السيد المسيح فى «أحد السَّعَف» عدداً من المفاهيم الجديدة التى كانت تناقض ذلك العصر، ومنها مفهوم «القوة بين الذات والوداعة».
سادت فى تلك الآونة مفاهيم رومانية للقوة فكانت انعكاساً لفكر السيطرة والسيادة على العالم من خلال المعارك والحروب. ولا عجب أن ترى فى ذلك العصر إعداد الشاب الرومانى لأن يصير محاربا منذ طفولته! فكان يدرُس ما يلزمه من العُلوم التى تؤهله لأن يكون جنديا مقتدرا، كما كان يقضّى مرحلة من حياته تصل إلى عشْر سنوات بين ميادين القتال والمعسكرات. وكانت الجموع تستقبل المنتصرين فى أثناء عودتهم، وهم يمتطون الخيول، يحوطهم جو من الاعتداد والنشوة. وفى المقابل، نرى نموذجا قدمه لنا السيد المسيح فى مشهد دخوله «أورُشليم»: فبدل امتطائه فرس حرب قويا سلك بوداعة واتضاع، مقدما مثلاً وقَُِدوة: أن القوة الحقيقية، لا فى التباهى أو الخُيلاء، ليست فى الزهو أو القوة العضلية، إنما هى قوة الاتضاع والمحبة وتقديم الخير للآخرين.
قرأت إحدى القِصص التى ذُكرت عن دخول السيد المسيح «أورُشليم» وهو قادم على الجحش، إذ قيل إن أحد الرومان- ويُدعى «سابور»ـ عندما شاهد السيد «المسيح» راكبا الجحش، سارع بأن قُدِّم إلى اليهود المرافقين للسيد المسيح حِصانا ليمتطيه بدلاً من الجحش الذى فى ظن عقليته الرومانية لا يناسب دخول العظماء؛ ولٰكن جاءه الرد على عرضه مخالفا لكل فكر اعتقده: فقد أجابه أحد اليهود بأن جميع الخُيول مهما علت قيمتها هى أقل قدرا فى نظرهم من ذلك الحيوان الذى سيركَبه السيد «المسيح»!! وقدم دليلاً على اعتقاده بأن «إبراهيم» أبا الآباء قد ركِب جحشا، وهو ذاهب لتقديم ابنه «إسحاق» ذبيحةً بحسب أمر الله له على «جبل المُرِيّا»، كما أن كليم الله «موسى النبى» العظيم ركِب هو الآخر هذا الحيوان؛ فعندئذ انصرف عنهم ذلك الرومانى مندهشا.
لم يكُن مفهوم قوة التواضع الذى قدمه السيد المسيح عمليا فى دخوله «أورُشليم» غريبا عن تعاليمه للشعب ولتلاميذه، فلم تكُن كلمات عظته الشهيرة على الجبل سوى تعاليم تقود البشر إلى محبة الله ومحبة بعضهم نحو بعض فى العائلة الإنسانية. وبأسلوب عملى أيضا صحح السيد المسيح مفهوم القوة والعظمة لتلاميذه، بعد أن جرت بينهم مباحثة فى الطريق عمن هو الأعظم بينهم، إذ قال لهم: «ملوك الأمم يسودونهم، والمتسلطون عليهم يُدعَون مُحْسنين. وأمّا أنتم فليس هكذا، بل الكبير فيكم ليكُن كالأصغر، والمتقدِّم كالخادم». ثم قدم لهم نفسه مثالاً وهو المعلم، قائلاً: «لأنْ من هو أكبر: الذى يتكئ أم الذى يخدُِم؟ أليس الذى يتكئ؟ ولٰكنى أنا بينكم كالذى يخدُِم».. وهكذا تعلّم التلاميذ معنى الوداعة والقوة الحقيقية التى تعتمد على مساندة الله للإنسان، ومحبة البشر له من أجل وداعته وبساطته ومحبته ومساندته ويده الممتدة بالخير لكل إنسان. حقًّا إن مفهوم القوة والضعف يختلف كثيرا بين الأرض والسماء! ودائما من يترك أموره بين يدى الله يرى قوة الله تعمل فى حياته، بل تصير له القوة التى يمكنها أن تهُز العالم. وبينما أكتب كلماتى هذه، تتمثل أمامى أحداث قصتين:
الأولى عن «يوسف الصدّيق» الذى سلك بوداعة أمام قسوة إخوته له وبيعه كعبد فى أرض «مِصر» ثم سلوكه بأمانة فى بيت سيده، وبوداعة إزاء اتهامات امرأة سيده ما أدى إلى دخوله السجن؛ ولٰكن باتضاعه واحتماله ومحبته رفّعه الله ليكون الرجل الثانى بعد فرعون!! والبطل الذى أنقذ العالم من مجاعة كادت تقضى عليه!!.
القصة الثانية عن امرأة عجوز كانت ترعى حفيدها بعد انتقال والديه من هذا العالم، وكان مريضا مرضا نادرا يحتاج رؤية طبيب عالمى مشهور بتخصصه فى هذا النوع من الأمراض. ولقصر يد العجوز لم تجد سوى أن ترفع أمرها إلى الله- تبارك اسمه. وتتوالى الأحداث: فعند قدوم ذلك الطبيب إلى بلدة قريبة من العجوز لحضور مؤتمر دولى، يضل طريقه بسبب أحوال المُناخ السيئة والأمطار الغزيرة، ليصل فى النهاية منزل تلك العجوز.
أهنئكم جميعا بهذه الأيام المباركة، متمنيا كل الخير والسلام للمِصريِّين جميعا.. وفى حب «مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى!.
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى