تحدثنا فى المقالة السابقة عن نهاية الأباطرة الأربعة الذين حكموا الإمبراطورية الرومانية فى الشرق والغرب. إلا أن حكم الإمبراطورية استمر رباعياً حتى تولى الحكم الإمبراطور «قُسْطَنْطين» منفرداً. ويوْلى التاريخ أهمية كبيرة لشخصية «قسطنطين» الذى تُعد مدة حكمه بداية لتاريخ الإمبراطورية البيزنطية التى تأسست فى الشرق. وقد اشتُهر بأنه كان آخر الأباطرة الوثنيِّين وأول الأباطرة الذين آمنوا بالمسيحية.
«قنسطنطيوس» الأب يصير قيصراً ثم إمبراطوراً (293- 306م)
فى عام 285م أشرك «دِقْلِدْيانوس» القائد «مَكْسِيميانوس» فى الحكم، فصار «مكسيميانوس» يحكم الغرب، و«دقلديانوس» فى الشرق، وكان لكل منهما مسؤولياته الملكية والجيوش لإدارة أمور الإمبراطورية.
وفى عام 288م قام الإمبراطور «مكسيميانوس» بتعيين «قنسطنطيوس» الحاكم الإمبراطورى فى بلاد الغال (وهى تشمل الآن فرنسا، وبلجيكا، والجزء الألمانى الواقع غرب نهر الراين). وفى هذه الأثناء ترك «قنسطنطيوس» «هيلانة» ليتزوج «ثِيؤدُورا» ابنة زوجة الإمبراطور «مكسيميانوس».
ونتيجة قلة الثقة بين الأباطرة والقياصرة الذين يحكمون الإمبراطورية عاش «قسطنطين» فى قصر «دقلديانوس» كرهينة يضمن بها عدم خيانة أبيه «قنسطنطيوس». وفى قصر «دقلديانوس» تلقى «قسطنطين» تعليماً رفيعاً، حيث درس الأدب اللاتينى، واليونانية، والفلسفة. وفى «نِيقُوميديا»- مقر دقلديانوس- التقى «قسطنطين» المثقفين من الوثنيِّين والمسيحيِّين. وقد كان «قسطنطين» شخصية بارزة فى البلاط الملكى، وقد قاد عديداً من حروب «دقلديانوس» و«جالِيريوس» فى آسيا، فحارب البربر فى الدانوب والفُرس فى سوريا تحت قيادة «دقلديانوس»، وفى بلاد ما بين النهرين تحت قيادة «جاليريوس»، حتى وصل إلى رتبة «قائد عسكرى من الدرجة الأولى» فى عام 305م. وقد عاصر «قسطنطين» مرحلة الاضطهاد المريع التى بدأت عام 303م وعاناها المسيحيُّون فى عهد «دقلديانوس».
وفى عام 305م أعلن «دقلديانوس» عزمه التخلى عن الحكم، وفى الوقت نفسه تخلى «مَكْسِيمْيانوس» شريكه هو أيضاً عن الحكم. وقد كان الشعب يعتقد أن «دقلديانوس» سيُنصِّب كلاً مِن «قُسْطَنْطِين» و«مَكْسِنْتِيُوس» ابن «مكسيميانوس» خليفين لهما. إلا أنه أعطى كلاً من «قنسطنطيوس» و«جاليريوس» لقب «أُغسطس»، ثم عيَّن «سِيفِيروس» و«مكسيميانوس الثانى دازا» قيصرين، وبذلك استمر حكم روما الرباعى.
قسطنطين يصبح قيصراً
انضم «قسطنطين» إلى والده فى بلاد الغال، ثم ذهبا إلى بريطانيا، وهناك مرِض والده ومات بعد أن أوصى- قبيل موته- بأن يكون ابنه خليفة له فى حكم البلاد. فقام الجيش بتنصيب «قسطنطين» إمبراطوراً على بلاد الغال وإسبانيا وبريطانيا فى عام 306م.
وقد أرسل رسالة إلى جاليريوس يعْلمه فيها بموت والده، وتنصيبه «أُغسطس» كوريث شرعى له. وقد استشاط «جاليريوس» غضباً، إلا أن رفضه لم يكُن يعنى آنذاك سوى الحرب، فقام بإعطاء «سيفيروس» لقب «أُغسطس»، و«قسطنطين» لقب «قيصر».
«مَكْسِنْتِيوس» ابن «مكسيميانوس» يثور ضد «قسطنطين»
شعَر «مكسنتيوس» بالغَيرة من «قسطنطين» فأعلن نفسه إمبراطوراً. ورفض «جاليريوس» ما قام به ولكنه لم يستطِع منعه، فأرسل جيشاً بقيادة «سيفيروس» إلا أنه قُبض عليه وسٌجن من قِبل قوات جيشه الذين كانوا موالين للإمبراطور «مكسيميانوس» والد «مكسنتيوس»، الذى عاد من تقاعده بسبب ثورة ابنه. وقد اتفق «مكسيميانوس» هو و«قسطنطين» على تعضيد سلطة ابنه «مكسنتيوس» فى مقابل تزويجه بابنته، فوافق «قسطنطين» ولم يدخل فى الحرب.
وفى عام 308م قام «جاليريوس» بعقد اجتماع حضره «دقلديانوس» و«مكسيميانوس»، الذى انتهى إلى: إجبار «مكسيميانوس» على الاعتزال ثانية وترك الحكم، وتغيير لقب «قسطنطين» من «أُغسطس»- مثل أبيه- إلى «قيصر»، وتعيين «لِيسِينْيوس» أُغسطس على الغرب. إلا أن هذه الحال لم تدُم طويلاً إذ لم يقبل «قسطنطين» بهذا الأمر.
فى عام 310م قام «مكسيميانوس» بثورة ضد «قسطنطين» فى أثناء وجوده فى معسكر ضد الأعداء. وعند سماع «قسطنطين» بثورة «مكسيميانوس» ضده ترك معسكره وعاد سريعاً ليجده قد فر إلى مدينة «مارسيليا» بفرنسا. وفى مارسيليا، فتح أهل المدينة الأبواب الخلفية للإمبراطور «قسطنطين»، وأُلقى القبض على «مكسيميانوس» وأعيد إلى قصر «قسطنطين»، ثم قام بشنق نفسه. وهناك قصة أخرى عن موت «مكسيميانوس» تقول إنه بعد عفو «قسطنطين» عنه، دبَّر مكسيميانوس خُطة لقتل قسطنطين وهو نائم، إلا أن «فوستا» علِمت بالأمر وحذرت زوجها قسطنطين الذى وضع أحد خدمه لينام مكانه، وما إن أدرك «مكسيميانوس» أنه قتل الخادم إلا وسارع بالانتحار.
«قسطنطين» يحارب «مكسنتيوس»
وفى عام 311م أعلن «مكسنتيوس» الحرب على «قسطنطين» متخذاً مقتل والده ذريعة للقتال، ولكنه لم يجد أى تعضيد من شعبه فى إيطاليا عندما أعد العُدة للحرب، إذ إن حكمه كان ظالماً جائراً على الرعية. وبإعلان الحرب، قام قسطنطين بالاتحاد مع ليكينيوس، وهو ما عَدَّه مكسيميانوس الثانى إهانة له، فاتحد هو الآخر و«مكسنتيوس» وعضَّده فى حربه عسكرياً.
ومع أن قسطنطين تلقى من مستشاريه تحذيرات من الدخول فى حرب أمام مكسنتيوس، إلا أنه قرر المواجهة والحرب غير عابئ بهذه التحذيرات.
وصل جيش قسطنطين إلى أرض المعركة حاملاً علامة كانت غريبة على الجيوش الرومانية، فقد ذكر لاكتانتِيوس أن قسطنطين قد حلَم فى الليلة السابقة للحرب بأنه يضع علامة «الصليب» على دروع جنوده، فى حين يذكر يوسابيوس القيصرى المؤرخ أن قسطنطين رأى علامة الصليب فى السماء ومعها رسالة تقول: «بهذه العلامة تَغلِب». ويستمر يوسابيوس فى وصفه الأحداث بأن أعقب هذا حُلم رأى فيه قسطنطين السيدَ المسيح يطلب منه أن يصنع هذه العلامة لجنوده. وبالفعل أمر جميع جنوده بوضع هذه العلامة على دروعهم، بعد أن كان الشعار المستخدم سابقاً هو صورة لصنم، كما صنع لنفسه شارة تحمل حرف X وفى وسطها حرف P، أول حرفين من اسم «السيد المسيح» (باليونانية خرِستوس Xpistos). وقد انتصر قسطنطين انتصاراً كبيراً على أعدائه بالرغم من صمود جيوش «مكسنتيوس» التى لم تستطِع الوقوف فى وجه قسطنطين وجنوده المندفعين، وهكذا انكسرت جيوش «مكسنتيوس» الذى غرق وهو يحاول الهرب على جسر نهر «التَيبَر».
وبِناء على سياسته المتسامحة، أعطاه المجلس لقبين: «أعظم القياصرة»، و«أعظم الأسماء» أى يوضع اسمه أول الأسماء فى جميع الأوراق الرسمية. وقد أصدر مرسوماً بإعادة كل الممتلكات التى فُقدت، والإفراج عن كل المعارضين الذين حبسوا فى عهد «مكسنتيوس».
«مرسوم ميلان» للتسامح الدينى 313م
وفى عام 313م التقى قسطنطين وليسينيوس فى ميلان، وأصدرا مرسوماً يُعرَف باسم مرسوم ميلان، وهو مرسوم رسمى للتسامح الدينى تجاه المسيحيِّين، بموجِبه أصبح للمسيحى الحرية فى اتِّباع الديانة التى يرغبها. كذلك أعطى المسيحيِّين الحق فى استعادة جميع ممتلكاتهم التى استُولِى عليها فى أيام «دقلديانوس». وخلال هذا اللقاء، وصل إلى مسامع ليسينيوس أمر إغارة «مكسيميانوس الثانى» على المقاطعة الأوروبية، فأسرع بجيشه لمحاربته وانتصر، وقبض عليه وسجنه، فقتل «مكسيميانوس الثانى» نفسه.
حرب أهلية
ولم تكَد تستقر الأمور حتى دخل الحسد والغَيرة قلب «ليسينيوس» من ارتفاع شأن قسطنطين وعلو قَدره، فحاربه. حتى إنه فى عام 320م خالف ليسينيوس منشور ميلان للتسامح الدينى وعاود اضطهاد المسيحيِّين. وقد أدى عدم استقرار هذه الأمور إلى وقوع حرب أهلية فى عام 324م، انتهت بهزيمة ليسينيوس وموته.
انفراد «قسطنطين» بالحكم وبناء القسطنطينية
وبذلك انفرد قسطنطين بحكم روما، وبدأت مرحلة جديدة فى الشرق. ففى عام 330م أسس مدينة القسطنطينية التى أصبحت عاصمة الإمبراطورية فى الشرق، وأُطلق عليها اسم «روما الجديدة».
أمّا عن مِصر فى هذه الأحداث، فقد تأثرت بهذه التغييرات تأثراً كبيراً، إذ بدأت تنعَم قليلاً ببعض من الهدوء والسلام بعد أن تعرضت لسنوات عشْر عصيبة من اضطهادات لم يشهدها أى قطر آخر.. و.. وعن «مصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام ورئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى